بين الأمن القومي ومصالح السلطة.. حرية الإعلام في الغرب "طائرٌ بجناحين مكسورين"
بين الأمن القومي ومصالح السلطة.. حرية الإعلام في الغرب "طائرٌ بجناحين مكسورين"
تكشف الأيام عن مفارقة صارخة في صلب المجتمعات الغربية التي طالما تباهت بالديمقراطية وحرية التعبير.. ففي الوقت الذي تُرفع فيه الشعارات عن الحريات وتُلقى فيه الخُطب الرنانة عن استقلالية الصحافة، تُغلق أبواب مؤسسات إعلامية وتُسكت أصوات صحفيين تحت ذرائع باتت تتكرر وهي، "الأمن القومي"، و"مكافحة خطاب الكراهية"، و"التصدي للتضليل الإعلامي".
وبينما تبدو هذه التبريرات معقولة على السطح، إلا أنها تخفي خلفها ممارسات رقابية موجهة، تتحرك كيد حديدية ترتدي قفازًا ناعمًا.
وأغلقت فرنسا في مطلع عام 2023 قناة "RT France" بذريعة تطبيق عقوبات أوروبية على وسائل الإعلام الروسية عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، واعتُبر القرار وسيلة لـ"منع الدعاية المضللة"، رغم أنه جاء في قلب عاصمة تُعد من أبرز منارات الديمقراطية، ولم تكن هذه السابقة منعزلة؛ فقد سبقتها خطوات مشابهة في بريطانيا وألمانيا، وهذا ما دفع منظمة "مراسلون بلا حدود" للتحذير من أن مواجهة البروباغندا لا ينبغي أن تتحول إلى ذريعة للرقابة المنظمة، وفق ما ورد في تقرير حرية الصحافة العالمي لعام 2024.
وتُستخدم مفاهيم الأمن القومي وخطاب الكراهية والتضليل الإعلامي كأدوات مرنة قد تُفصَّل على مقاس المزاج السياسي، ففي الولايات المتحدة، استُخدم قانون "تسجيل الوكلاء الأجانب" (FARA) لفرض قيود على وسائل إعلام مثل "سبوتنيك"، تحت غطاء الشفافية، غير أن مراقبين يرون في ذلك سياسة انتقائية لتقويض الإعلام المعارض للسرد الرسمي، وفي بريطانيا، أُقر عام 2023 قانون أمن قومي بصيغة تسمح بملاحقة إعلاميين أجانب بدعوى ارتباطهم بجهات "عدوة"، في خطوة تُهدد أي نقد موضوعي للسياسة البريطانية بالإقصاء.
وتعمقت الأزمة مع تصاعد الضغوط الاقتصادية على الإعلام؛ فمنذ 2020، سجلت "فريدوم هاوس" تراجعًا بنسبة 13% في مؤشر حرية الصحافة بأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وهو أدنى مستوى منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث يعود جزء من هذا التراجع إلى هيمنة الشركات العملاقة على سوق الإعلان، وربط التمويل الإعلامي بمصالح حكومية أو اقتصادية غير معلنة.
وحتى المؤسسات الكبرى لم تسلم من هذا التآكل؛ فقد كشف تقرير داخلي مسرّب في "سي إن إن" نُشر عبر "بوليتيكو" في فبراير 2024، عن وجود "خطوط حمراء غير معلنة" تحد من تغطية مواضيع مثل التدخلات الأمريكية الخارجية أو سياسات الحلفاء المقربين.
التضليل.. غطاء جديد للتكميم
تحولت قوانين مكافحة التضليل الإعلامي إلى سيف مسلط على رقاب الصحفيين، ففي أوروبا، دخل قانون "الخدمات الرقمية" حيز التنفيذ في أغسطس 2024، وفرض على المنصات إزالة المحتوى "المضلل" خلال 24 ساعة تحت طائلة غرامات ضخمة، لكن يبقى السؤال: من يقرر ما هو مضلل؟ هنا يكمن الخطر حين تكون السلطة الخصم والحَكم في آن واحد.
وبرز دور شركات التكنولوجيا الكبرى في التحكم بخوارزميات نشر الأخبار، فقد أظهرت "لجنة التجارة الفيدرالية" في نهاية 2024 أن 38% من المحتوى السياسي يخضع لتغييرات في مستوى انتشاره بناءً على قرارات داخلية غير شفافة، ولم تعد الحكومات بحاجة للرقابة المباشرة، بل تسند المهمة إلى خوارزميات ذكية تتحكم في الوعي العام بصمت.
ولم يسلم الصحفيون المستقلون من حملات التشويه والملاحقة القانونية؛ ففي إيطاليا، استُهدِف العاملون على ملفات الفساد بحملات منسقة عبر وسائل التواصل، بينما في أمريكا واجه صحفيون مستقلون اتهامات بـ"نشر معلومات كاذبة" دون أدلة دامغة، أما في كندا فقد استُخدم قانون "مكافحة الكراهية الإلكترونية" ضد منصات صغيرة نشرت تحقيقات تُحرج الحكومة، ما دفع منظمة "هيومن رايتس ووتش" للتحذير من تهديدات متزايدة لجوهر حرية التعبير.
أمام هذا المشهد، تبدو حرية الإعلام وكأنها طائر مكسور الجناحين: قانون يكمم من جهة، واقتصاد يُرهب من جهة أخرى، فالإعلاميون يُدجّنون تدريجيًا حتى يصبح الصحفي موظفًا يردد العبارات دون مساءلة، بينما يُقسم الرأي العام بين داعم للحريات ومتخوف من الأخطار الخارجية.
ورغم الانتقادات الغربية لحملات الرقابة في دول مثل الصين وروسيا، فإن المشهد الغربي ذاته بدأ يشهد ممارسات مشابهة ولكن بلغة أكثر تهذيبًا، وهكذا، تُغتال الحريات باسم حمايتها، في مشهد يُعيد للأذهان دروس التاريخ أن طريق الاستبداد كثيرًا ما يبدأ بنوايا طيبة.
شعارات الديمقراطية وأدوات القمع
اعتبر الإعلامي الجزائري توفيق قويدر، أن حرية الإعلام، رغم أنها حق دستوري مكفول في الدول الديمقراطية الغربية مثل فرنسا وبلجيكا وسائر المجتمعات الأوروبية، فإنها كثيراً ما تتعرض للانتقاص والتضييق تحت ذرائع متعددة، مؤكدا أن هذه الأنظمة، وإن كانت تتغنى بحرية التعبير كجزء من بنيتها الديمقراطية، تلجأ أحياناً إلى غلق وسائل إعلامية أو فرض قيود مشددة عليها، سواء عبر أوامر مباشرة أو عبر اللجوء إلى القضاء، مستندة إلى ذرائع أمنية أو دعاوى حماية النظام العام.
وأوضح قويدر، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن أحد أهم المعايير التي تُستخدم لتبرير هذه الإجراءات هي معيار الأمن القومي، حيث تُتهم بعض الوسائل الإعلامية بأنها تمثل تهديداً للدولة أو أنها تعمل لصالح أطراف أجنبية معادية، وقد مثّل إغلاق قناة "روسيا اليوم" مثالاً بارزاً على ذلك، حيث تم حظرها بحجة مناهضتها للسياسات الأوروبية وموالاتها لروسيا، رغم أن حرية العمل الصحفي مكرسة دستورياً، مشيرا إلى أن وسائل إعلام أخرى تم إغلاقها أو التضييق عليها بسبب تغطيتها للأحداث مثل احتجاجات "السترات الصفراء" أو مواقفها غير المنحازة في الحرب الروسية الأوكرانية، متذرعين بخطاب الكراهية، الذي بات شماعة جاهزة لكل تحرك إعلامي لا يرضى عنه صناع القرار.
وبيّن أن تهم "خطاب الكراهية" و"معاداة السامية" أصبحت تُستخدم بشكل فضفاض لتكميم الأفواه، حتى إن مجرد نقد سياسات حكومة بنيامين نتنياهو يُصنّف أحياناً ضمن خانة معاداة السامية، رغم أن النقد السياسي حق مكفول في الأعراف الديمقراطية.. وأوضح أن هذه المغالطات تؤدي إلى قمع الأصوات المستقلة ومحاصرة النقاش الحر.
وأضاف قويدر، أن معيار الولاء السياسي يمثل عاملاً آخر من عوامل التضييق، إذ يُفرض على بعض وسائل الإعلام تبني سياسات الحكومات القائمة، خاصة عندما تكون هذه الحكومات يمينية أو متطرفة. فمن لا يتماشى مع التوجه الحكومي يجد نفسه عرضة للحجب أو الإغلاق، مشيراً إلى أن هناك حالات مشابهة في ألمانيا وفرنسا حيث تزايد نفوذ اليمين المتطرف على الساحة الإعلامية.
وأشار إلى أن الضغط السياسي والاقتصادي يلعب دوراً خطيراً في تقليص الحريات الإعلامية، فغياب الاستقلالية المالية يجعل وسائل الإعلام خاضعة لمموليها الذين يفرضون عليهم أجنداتهم الخاصة. واستشهد بما حدث خلال فترة إدارة ترامب في الولايات المتحدة، حيث تعرضت القنوات الإعلامية لضغوط هائلة لخدمة الفكر الشعبوي، وهو ما يتكرر بنماذج مشابهة في أوروبا.
وشدد على أن قوانين مكافحة التضليل الإعلامي ليست في كثير من الأحيان سوى أدوات إضافية لتكميم الأفواه، فبدلاً من أن تُحمي حرية التعبير، تتحول إلى وسيلة لتقييدها تحت شعارات براقة.
وختم قويدر تصريحه بالتأكيد على أن حماية حرية الإعلام لا تتحقق عبر الشعارات الجوفاء، بل عبر احترام حقيقي لاستقلالية الصحافة وصون حقها في النقد الحر بعيداً عن الضغوط السياسية والاقتصادية.
الممارسات المقيدة للإعلام
قال رئيس تحرير "تايم نيوز أوروبا بالعربي"، سعيد السبكي، إن حرية الإعلام في الغرب تمر بمنعطف بالغ الخطورة، يكشف عن مفارقة صارخة بين الشعارات المرفوعة والممارسات الواقعية؛ فرغم ما يُروّج له من خطب جوفاء عن ريادة الديمقراطية وحماية حرية التعبير، تتخذ بعض الأنظمة الغربية إجراءات تغلق بها أبواب صحف وقنوات إعلامية تحت ذرائع متعددة، أبرزها حماية الأمن القومي أو مكافحة الكراهية. وهكذا يُدار الإعلام أحياناً بقبضة من حديد داخل قفاز حريري، حيث تتوارى الحقيقة خلف ستار الشعارات البرّاقة.
وأضاف السبكي، في تصريحات لـ"جسور بوست": المعايير التي تستخدمها دول الاتحاد الأوروبي لتبرير إغلاق أو تقييد عمل وسائل الإعلام تتسم بازدواجية واضحة، بل وأكثر من ذلك؛ فهي ترتكز غالباً إلى مصالح سياسية ضيقة، مدعومة بتقارير دورية تصدر عن أجهزة الاستخبارات، التي تُعد طرفاً مستفيداً من الإبقاء على مستويات عالية من التمويل والدعم المالي، ولعل أبرز الذرائع المستخدمة لتبرير مثل هذه الانتهاكات تتمثل في "حماية السلم الاجتماعي"، و"مكافحة الإرهاب"، و"محاربة التطرف"، ما يمنح السلطات ذريعة دائمة لتضييق الخناق على الأصوات الإعلامية المعارضة أو غير المسايرة.
وأوضح السبكي، أن الضغط السياسي والاقتصادي يمارس تأثيراً بالغاً على استقلالية الإعلام في الغرب، وأن هذا التأثير يتفاوت حسب السياق الزمني والظروف السياسية؛ ففي خضم اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، على سبيل المثال، بدا جلياً كيف تم منح الإعلام الأوروبي تسهيلات غير رسمية ومساحات أكبر للدعاية، بهدف حشد الرأي العام لدعم أوكرانيا ومناهضة روسيا.. وهكذا يُطوّع الإعلام بما يخدم السياسات المرحلية، بعيداً عن معايير الاستقلالية المهنية.
وأكد أن قوانين "مكافحة التضليل الإعلامي" التي تم إقرارها مؤخراً في الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من ضرورتها في زمن الشائعات، تُستخدم عملياً كوسيلة لإخراس الأصوات، لا سيما الأصوات اليسارية والمستقلة.. حيث تتيح هذه القوانين للسلطات والمنصات الكبرى صلاحيات واسعة لإزالة المحتوى خلال آجال قصيرة جداً دون رقابة قضائية حقيقية.
وأشار السبكي إلى أن الرأي العام الأوروبي، رغم تعليمه العالي ووعيه السياسي النسبي، يتعامل مع هذه الممارسات بقدر من البرود واللا مبالاة، إلا إذا مست بشكل مباشر مستوى معيشته، أو هددت حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يكشف عن تحول خطير في أولويات المجتمعات الغربية تجاه القيم الأساسية التي طالما تغنت بها.
وقال إن التطورات الأخيرة المتعلقة بقانون حرية الإعلام في الاتحاد الأوروبي، الذي أقره البرلمان الأوروبي بأغلبية ساحقة منتصف مارس الماضي.. حيث نص هذا القانون على حظر استخدام برامج التجسس ضد الصحفيين إلا في حالات دقيقة ومحددة، وإلزام وسائل الإعلام بالكشف عن مالكيها، ومنع المنصات الرقمية الكبرى من تقييد المحتوى الإعلامي المستقل بشكل تعسفي، مع ضمان استقلالية القرارات التحريرية لوسائل الإعلام العامة من التدخلات السياسية أو الاقتصادية.
وبيّن أن القانون الجديد يشترط أن يتم اختيار رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المؤسسات الإعلامية وفق آليات شفافة وعادلة، كما يفرض الكشف عن التمويل الحكومي المقدم للوسائل الإعلامية بهدف ضمان الشفافية ومنع تضارب المصالح.
وأكد أن المنصات الكبرى مثل "فيسبوك" و"إكس" (تويتر سابقاً) و"إنستغرام" باتت ملزمة بإخطار الوسائل الإعلامية قبل إزالة أو تقييد أي محتوى، مع منح فرصة للرد خلال 24 ساعة.
وقال إن ما يحدث في الغرب اليوم ليس مجرد مسألة تنظيم أو ضبط للمجال الإعلامي، بل هو إعادة صياغة دقيقة لمفهوم الحرية ذاتها، بما يتناسب مع مصالح سياسية واقتصادية كبرى، محذراً من أن استمرار هذا الاتجاه سيؤدي إلى تآكل تدريجي في القيم الديمقراطية التي قامت عليها المجتمعات الغربية، وإلى غروب الشمس عن الصحافة الحرة التي لطالما اعتُبرت حصناً للديمقراطية ومساءلة السلطة.
حرية الصحافة عالمياً
قال الصحفي حيدر عبدالكريم، المقيم في نيروبي، إن الأنظمة السياسية، دون استثناء، تتعامل مع حرية الصحافة وفقاً لما تمليه عليها مصالحها الخاصة، حيث تُفعّل وضعية "حارس البوابة" متى ما شعرت بأن التغطية الإعلامية تتقاطع مع توجهاتها السياسية أو تهدد سردياتها الرسمية، موضحا أن هذه الأنظمة، حين تجد في الصحافة صوتاً مستقلاً قد يعرقل سياساتها، تلجأ إلى آليات قمعية تتراوح بين فرض القوانين المقيّدة أو إصدار الأوامر المباشرة، وهي في حقيقتها محاولات للتهرب من المسؤوليات التي تفرضها القوانين والالتزامات الدستورية القائمة على صون الشفافية والمساءلة وحماية الحق في حرية التعبير.
وأشار عبدالكريم، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن الحجج التي تساق لتبرير التضييق على الصحافة، حتى داخل الأنظمة الديمقراطية، غالباً ما تتمحور حول "حماية الأمن القومي"، وهي حجة فضفاضة تستغل في غير موضعها، فتتحول إلى ذريعة لإخماد الأصوات الحرة وتقليص الدور الرقابي للإعلام، مضيفا أن الضغط السياسي والاقتصادي على الصحف والمؤسسات الإعلامية، سواء عبر تقليص الموارد أو التهديد بالإغلاق، هو أسلوب آخر من أساليب القمع، هدفه خنق حرية الصحافة ودفعها إلى ممارسة الرقابة الذاتية، خوفاً من الانهيار المالي أو الدخول في مواجهات قانونية مكلفة.
وأكد أن هذه الضغوط تشكل تهديداً حقيقياً لاستقلالية العمل الصحفي، وتجعل الكثير من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية أكثر تردداً وخوفاً من تناول القضايا ذات الطابع التقاطعي مع السلطة، ما يؤثر سلباً على الأداء المهني ويحد من قدرة الإعلام على أداء دوره الحيوي في الرقابة والمساءلة.
كما انتقد بشدة القوانين المستحدثة لمكافحة التضليل الإعلامي، معتبراً إياها تكريساً مقنعاً لآليات القمع، محذراً من أن ترك أمر تنظيم العمل الصحفي بيد السلطات السياسية سيؤدي حتماً إلى تآكل الحريات وانهيار القيم المهنية.
ورأى عبدالكريم أن المجتمعات الغربية، رغم خطابها الحقوقي، تعاني بدورها من أزمات في الدفاع عن حرية الصحافة، إذ تميل غالبية مكونات المجتمع إلى الانحياز إلى صفوف السلطة في أوقات الأزمات، بينما تظل أصوات المدافعين عن الحريات العامة والمجتمع المدني خافتة، وغالباً ما تُقمع بشدة.
وختم بالتأكيد أن المواجهة مع تغول السلطة على حرية الصحافة تتطلب معارك قضائية طويلة النَفَس، وتعديلات دستورية صارمة من شأنها أن ترسم حدوداً واضحة للتدخلات السياسية في العمل الإعلامي.