"فورين أفيرز": الاقتصاد العالمي في حاجة إلى أدوات جديدة لفهم زمن الرقمنة
"فورين أفيرز": الاقتصاد العالمي في حاجة إلى أدوات جديدة لفهم زمن الرقمنة
واجه الاقتصاد العالمي صدمة كبيرة في أبريل، بعد أن فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية مفاجئة أثارت موجة من الفوضى التجارية، أثّر هذا القرار بشكل مباشر على أكثر من 300 مليون شركة في أنحاء العالم، تتفاعل عبر نحو 13 مليار رابط إمداد، وازداد الارتباك، لكنه لم يكن سوى فصل جديد في سلسلة اضطرابات اقتصادية بدأت منذ جائحة كوفيد-19 في 2020.
ووفقا لتحليل أجرته مجلة "فورين أفيرز"، ونشرته الجمعة، أجبرت الاختناقات المفاجئة في سلاسل الإمداد الباحثين على إعادة النظر في أسس عمل الاقتصاد المعولم.
وكشفت الأزمة عن ضعف النظام الحالي، حيث تعتمد المنتجات على عبور الحدود مرات عدة، مثل معقمات اليدين التي احتاجت إلى مواد كيميائية من الخارج، أو الطائرات التي تعطّل إنتاجها بسبب نقص المكونات كما حدث مع "إيرباص" في 2024.
تجاهل نصف القصة
استمر الاقتصاديون في استخدام مقاييس قديمة مثل الناتج المحلي الإجمالي، التي وُضعت في أربعينيات القرن الماضي، ولا تزال تُركّز على قياس الطلب أكثر من فهم العرض أو القدرة الاقتصادية الحقيقية على التكيّف مع الضغوط، لهذا السبب، صُنِّف نحو 80% من ناتج الاقتصادات المتقدمة على أنه "صعب القياس".
وأدى التركيز على الصناعات التقليدية –مثل التصنيع– إلى تهميش القطاعات الحديثة التي تُحرك الاقتصاد الرقمي اليوم، وبينما يتغير شكل الإنتاج العالمي تبقى طرق القياس عالقة في الماضي.
ووُضع نظام الحسابات القومية خلال الحرب العالمية الثانية، بقيادة اقتصاديين مثل جون ماينارد كينز، لتلبية احتياجات الحلفاء في تحقيق توازن بين الاستهلاك والإنتاج الحربي، واستمر تطويره دوريًا كل عشر سنوات تقريبًا، لكن وتيرة التحديث ظلت بطيئة وتخضع لإجماع دولي.
وصُمم هذا النظام لاقتصاد يسيطر عليه التصنيع وتُنتج فيه السلع داخل حدود وطنية، لكن الواقع تغير كثيرًا، وبات الاقتصاد المعاصر يعتمد على البيانات والتكنولوجيا، في حين لا تزال أدوات القياس تُشبه آلة كاتبة في عصر الهواتف الذكية.
الإحصاءات لم تواكب
شهدت التجارة تحوّلًا كبيرًا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتحوّلت سلاسل الإنتاج من محلية إلى عالمية، بحيث لم يعد تصدير سيارة يعني شحن منتج نهائي، بل نقل مئات المكونات عبر الحدود قبل التجميع.
وظهرت نماذج أعمال جديدة، فالشركات لم تعد تُصنّع كل شيء بنفسها، وأصبحت تعتمد على شركاء خارجيين في التصميم، والتصنيع، والخدمات، كما هي الحال في قطاع الإلكترونيات، ويمثل التصنيع التعاقدي اليوم 15–20% من إنتاج قطاعات حيوية مثل الأدوية.
ورغم كل هذه التغيّرات، لم تُصمّم الإحصاءات التقليدية لرصد هذا التشابك، ما صعّب متابعة أداء سلاسل التوريد حتى في الأوقات الهادئة.
التكنولوجيا خارج الإحصاءات
لم تعترف المقاييس الحالية بأثر الخدمات الرقمية مثل "السحابة الإلكترونية" على خفض التكاليف وزيادة الإنتاجية، وتجاهلت كذلك قيمة البيانات التي تُعد أصلًا بالغ الأهمية لكبرى الشركات، وركّزت فقط على تكلفة البنية التحتية المادية.
ولا تزال القيمة الحقيقية للخدمات الرقمية المجانية –مثل البرمجيات مفتوحة المصدر– موضوع جدل بين الإحصائيين، هذا الغياب في القياس يترك فراغًا كبيرًا في فهم الإنتاجية الحقيقية.
وبدأت بعض البنوك المركزية، مثل الاحتياطي الفيدرالي، في تطوير مؤشرات مثل "مؤشر ضغوط سلاسل الإمداد العالمية"، لكن المقاييس تظل غير كافية، ولا توجد أداة دقيقة لتقييم هشاشة سلاسل توريد منتجات رئيسية مثل هواتف "آيفون"، أو فهم تأثير الذكاء الاصطناعي والرقمنة على الأعمال.
ويحاول صانعو السياسات قيادة الاقتصاد وسط ضباب كثيف من المعلومات الناقصة، باستخدام أدوات تقيس الماضي بدلًا من الحاضر والمستقبل.
ويدعو خبراء مثل فاسكو كارفالو إلى استغلال بيانات الضرائب والمدفوعات لرسم خرائط أكثر دقة لشبكات الإنتاج، لكن مجرد رسم الشبكات لا يكفي، فالمطلوب هو فهم الإمكانات الكامنة والمرونة الاقتصادية، أي القدرة على التكيّف مع الأزمات المستقبلية.
ويتطلب هذا منظورًا شاملًا يشمل رأس المال المادي، كالبنية التحتية، ورأس المال غير الملموس مثل البيانات، وشبكات الاتصالات، والنظم الرقمية التي تديرها الحكومات، كذلك يجب إدماج رأس المال البشري (المهارات والصحة)، والطبيعي (المعادن والتنوع البيولوجي)، والحوكمة (سيادة القانون والمؤسسات).
العالم يسير بلا بوصلة
لا يُمكن بناء نموذج اقتصادي حديث دون جمع كميات هائلة من البيانات الجديدة، هذا يتطلب إرادة سياسية، وتمويلًا كبيرًا لوكالات الإحصاء التي تعاني من نقص الموارد منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
وبدأت مبادرات تجريبية مثل "مؤشر الاقتصاد الأنثروبي" بتتبع أثر الذكاء الاصطناعي على المجتمع، هذه المبادرات تُثبت أن البيانات موجودة، لكن لا تُستخدم بالشكل الكافي، وإذا استمر هذا القصور فسيبقى العالم الاقتصادي يسير بلا بوصلة.
ومع تفاقم الضغوط على الاقتصاد العالمي، وتغيّر أنماط التجارة، لم يعد بإمكان العالم الاعتماد على مقاييس من عصر مضى، وكما فرضت الحرب تحديث الإحصاءات في أربعينيات القرن الماضي، يجب أن تفرض تحديات اليوم إصلاحًا شاملًا.. بدون ذلك، سيظل الاقتصاد العالمي عرضة للمفاجآت، وصانعو القرار في حالة تخبّط دائم.