الإخصاء الكيميائي.. وقاية لأمن المجتمع أم اعتداء مُقنن على الجسد؟
الإخصاء الكيميائي.. وقاية لأمن المجتمع أم اعتداء مُقنن على الجسد؟
في ظل تصاعد الجرائم الجنسية وتزايد الضغوط على منظومات العدالة الجنائية، تتجه بعض الدول إلى تجارب جريئة تثير جدلاً واسعاً على صعيد الحقوق والحريات، ومن بين هذه التجارب يأتي الاقتراح البريطاني بشأن فرض الإخصاء الكيميائي على مرتكبي الجرائم الجنسية، كخطوة تحاول من خلالها الحكومة معالجة الظاهرة الإجرامية.
وأعلنت وزيرة العدل البريطانية، شابانا محمود، أن المملكة المتحدة تدرس فرض الإخصاء الكيميائي بشكل إلزامي على بعض مرتكبي الجرائم الجنسية، في محاولة لتقليل خطر التكرار الإجرامي وتخفيف الضغط المتزايد على منظومة السجون، وذكرت وكالة الصحافة الفرنسية، الجمعة، أن وزيرة العدل البريطانية أكدت خلال جلسة للبرلمان، أن الاقتراح يستند إلى تجربة تجريبية بدأت عام 2022 في عدة سجون بجنوب غرب إنجلترا، حيث تُقدّم العقاقير المثبطة للرغبة الجنسية بشكل طوعي لبعض الجناة.
وقالت شابانا محمود: "سأمضي قدماً في تطبيق النظام على المستوى الوطني، والذي سيبدأ في منطقتين ويغطي عشرين سجناً، وأدرس إمكانية جعله إلزامياً".
ويكشف التحليل القانوني لهذا الاقتراح عمق التحديات التي يطرحها.. فالإخصاء الكيميائي، الذي يقوم على استخدام أدوية لتقليل مستويات الهرمونات الجنسية والرغبة الجنسية، يمس بشكل مباشر بجسد الإنسان، ويثير تساؤلات حادة حول حدود التدخل الطبي في الحقوق الفردية.
من الناحية القانونية، يجب أن يُنظر إلى هذا الإجراء في سياق حقوق الإنسان، خصوصاً الحق في حرمة الجسد وحق الموافقة الحرة والمستنيرة على أي تدخل طبي، وهو ما قد يُعرض للخطر في حالة فرضه إجبارياً.
وتدعم الحكومة البريطانية هذا الاتجاه مستندة إلى أدلة علمية تشير إلى فعالية العلاجات الكيميائية في تقليل السلوكيات الجنسية الخطرة لدى بعض الجناة، ووفق الناطق باسم رئيس الوزراء كير ستارمر، فإن "الأدلة العلمية واضحة على أن العلاجات الكيميائية يمكن أن تكون فعالة في معالجة المجرمين الخطرين".
ويرى معارضو الإجراء أن فرض تدخل طبي بهذه الدرجة من التعدي على الجسد قد يُعد نوعاً من "التعذيب السريري"، خاصة إذا تم دون موافقة كاملة.
كما تحذر منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" من أن الإخصاء الكيميائي، حتى لو كان فعالاً نسبياً، فإنه يُحوّل جسد الجاني إلى مساحة للعقاب وليس للعلاج، في تجاهل للحق في الكرامة الإنسانية.
وفي المقابل، يرى المؤيدون أن هذا الإجراء قد يكون حلاً عملياً لحماية المجتمع، خصوصاً في حالات الجناة المتسلسلين، أو أولئك الذين يفشلون في الاستجابة للعلاج النفسي التقليدي. وتستند بعض هذه الآراء إلى تجارب علمية، مثل تلك التي نُشرت في دورية "Journal of Forensic Sciences"، والتي بيّنت أن الجمع بين العلاج الكيميائي والعلاج السلوكي النفسي أدى إلى نتائج إيجابية في خفض معدلات العود للجريمة.
لكن لا يمكن التغافل عن أن دوافع الجناة متنوعة، وليست جميعها محصورة في الرغبة الجنسية، فقد أشار تقرير صادر عن “The UK Forensic Psychiatry Review” إلى أن نحو 40% من مرتكبي الجرائم الجنسية يعانون من اضطرابات نفسية مرتبطة بالهيمنة أو العدوان أو اضطراب الشخصية، ما يعني أن تقليل الرغبة الجنسية قد لا يغير من ميولهم العنيفة، بل يتطلب تدخلاً نفسياً أعمق.
وفي ضوء هذا التباين، تبرز الحاجة إلى إطار قانوني متكامل، يضمن أن يكون الإخصاء الكيميائي، إن تم تطبيقه، إجراءً علاجياً بإرادة الجاني، وتحت رقابة طبية مستقلة، وبمرافقة دعم نفسي واجتماعي، مع مراجعة دورية تضمن عدم تحوله إلى وسيلة قسرية مقنّعة.
الإخصاء الكيميائي بين الردع والانتهاك
قال الدكتور مصطفى السعداوي، أستاذ القانون الجنائي، إن مصطلح "الإخصاء الكيميائي" يُستخدم للإشارة إلى استخدام عقاقير طبية معينة تؤثر على إنتاج الهرمونات الجنسية لدى الأفراد، ما يؤدي إلى إضعاف أو إيقاف الرغبة الجنسية بشكل مؤقت طيلة فترة تناول الدواء.
وأوضح أن هذه الطريقة ليست حديثة، بل لجأت إليها بعض التشريعات الجنائية في دول عدة، كوسيلة لردع ومعاقبة مرتكبي الجرائم الجنسية الجسيمة، لا سيما تلك التي تُرتكب بحق الأطفال أو الفتيات القاصرات.
وأضاف السعداوي، في تصريحات لـ"جسور بوست": التجربة التاريخية تُظهر أن عدداً من الدول الأوروبية، مثل السويد وبلجيكا وألمانيا والدنمارك، قامت بإقرار استخدام الإخصاء الكيميائي بشكل طوعي أو في بعض الحالات بشكل إلزامي، بعد تقنين استخدام بعض الأدوية المثبطة للرغبة الجنسية تحت إشراف طبي صارم، كما أشار إلى أن البرلمان الروسي قد أباح اللجوء إلى هذه العقوبة في حالات معينة تتعلق بالاعتداء الجنسي، في محاولة للسيطرة على هذه الظاهرة وتقليل معدلات تكرار الجريمة.
وأكد أن الهدف الأساسي من هذا الإجراء –حسب ما تراه تلك التشريعات- هو شل قدرة الجاني على تكرار سلوكه الجنسي المنحرف خلال فترة الخضوع للعلاج الكيميائي، وبالتالي تقليل الخطر على المجتمع ووقاية الضحايا المحتملين، مشدداً في الوقت ذاته على أن الإخصاء الكيميائي لا يمثل علاجاً دائماً أو جذرياً، بل هو إجراء مؤقت يتطلب رقابة طبية ونفسية متواصلة.
وعلى الرغم من توسع بعض الدول الغربية في استخدام هذا النوع من العقوبات، بيّن السعداوي أن هناك انقساماً واضحاً على المستوى القانوني والأخلاقي حول مدى جواز استخدام الإخصاء الكيميائي، سواء كعقوبة أو كوسيلة علاجية.
فقد رفضت مؤسسات دينية بارزة، مثل الأزهر الشريف، إجازة هذا الإجراء، معتبرة إياه نوعاً من التعدي على الجسد وكرامة الإنسان، وهو ما يتعارض مع المبادئ الشرعية والإنسانية التي تحظر العبث بجسد الإنسان تحت أي ذريعة.
وعن الموقف القانوني في الدول العربية، أوضح الدكتور السعداوي، أن التشريعات الجنائية في الوطن العربي لا تزال بعيدة عن تقنين هذا النوع من الإجراءات، نظراً لما يمثله من إشكالات قانونية وحقوقية ودينية. وأكد أن حماية الجسد تعتبر من الحقوق اللصيقة بالشخصية الإنسانية والتي لا يجوز انتهاكها، وأن أي تدخل على هذا النحو يجب أن يخضع لنص تشريعي واضح وصريح، لا يقبل التأويل، وهو ما تفتقر إليه حالياً أغلب التشريعات في المنطقة.
وأشار السعداوي إلى أن هناك جدلاً دائراً في الأوساط السياسية والقانونية حول إمكانية تقنين الإخصاء الكيميائي، خصوصاً في ظل تصاعد الجرائم الجنسية والضغط الذي تعانيه منظومة السجون البريطانية. ومع ذلك، أوضح أن التشريع الإنجليزي يخضع لمبدأ "الشرعية الجنائية"، وهو مبدأ دستوري يحظر فرض أي عقوبة أو إجراء إلا بناءً على نص قانوني واضح، مما يجعل تقنين الإخصاء الكيميائي في بريطانيا مسألة معقدة، وتواجه معارضة مشابهة لتلك التي واجهها مشروع تقنين القتل الرحيم.
وأضاف أن مناهضي الإخصاء الكيميائي في بريطانيا يستندون إلى نفس الحجج الحقوقية، وعلى رأسها حق الفرد في حماية جسده من أي تدخل قسري، حتى وإن كان الجاني مداناً بجرم خطير.. وهو ما يجعل تمرير هذا الإجراء داخل المنظومة القانونية البريطانية أمراً صعباً دون توافق قانوني ومجتمعي عميق.
واختتم السعداوي تصريحه بالتأكيد على أن الإخصاء الكيميائي، رغم ما قد يبدو عليه من فعالية ظاهرية في تقليل خطر تكرار الجريمة، يظل محاطاً بتساؤلات أخلاقية وقانونية معقدة، تتطلب نقاشاً عميقاً بين المتخصصين في القانون والطب وحقوق الإنسان.
كما شدد على أن أي خطوة نحو تقنينه –سواء في الدول الأوروبية أو العربية– يجب أن تُبنى على أسس علمية وقانونية محكمة، تحترم الكرامة الإنسانية وتضمن التوازن بين حماية المجتمع من الجريمة وبين صون الحقوق الفردية للمدانين.
بين الردع والكرامة الإنسانية
قال الناشط الحقوقي، محمود الزيني، إن قضية الإخصاء الكيميائي تُعد من أكثر الملفات القانونية والطبية والحقوقية إثارةً للجدل، لما تحمله من أبعاد نفسية واجتماعية وأخلاقية عميقة، تتقاطع عندها مفاهيم العدالة مع قيم الكرامة الإنسانية.
وأوضح الزيني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الإخصاء الكيميائي ليس مجرد إجراء طبي يستهدف تقليل الرغبة الجنسية لدى مرتكبي الجرائم الجنسية الخطيرة، بل هو منظومة معقدة من التدخلات الجسدية والنفسية والاجتماعية التي تثير تساؤلات جادة حول مدى مشروعيتها وفعاليتها ومآلاتها على المدى البعيد.
وأشار إلى أن هذا الإجراء، والذي طُبّق في بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبولندا والدنمارك، وفي ولايات أمريكية عدة منها كاليفورنيا وتكساس، يتمثل في إعطاء أدوية تؤثر على إنتاج الهرمونات الجنسية، مما يؤدي إلى خفض الرغبة الجنسية بشكل ملحوظ.. لكنه في المقابل يترك تأثيرات نفسية طويلة الأمد، قد تشمل تغيرات هرمونية حادة، واضطرابات في المزاج، وشعورًا بالاكتئاب أو القلق، إضافة إلى احتمال حدوث تشوش أو اضطراب في الهوية الجنسية للشخص الخاضع لهذا الإجراء.
وأضاف أن هذا النوع من العقوبات لا يمر دون تبعات اجتماعية ثقيلة، إذ يُلحق وصمة اجتماعية قاسية بالمعتدين، تعوق عودتهم إلى المجتمع أو انخراطهم مجددًا في سوق العمل أو الحياة الاجتماعية، حتى وإن أتموا مدة العقوبة.
ولفت إلى أن التحديات التي تواجه عمليات التأهيل والدمج الاجتماعي في ظل الإخصاء الكيميائي تتطلب بنية دعم نفسي وطبي واجتماعي متقدمة، وهي شروط نادرًا ما تتوافر في السياقات التي يُطبق فيها هذا النوع من العقوبات.
وفي السياق، نبّه الزيني إلى أن الإخصاء الكيميائي الإلزامي يثير إشكالات خطيرة تتعلق بحقوق الإنسان، إذ يمكن اعتباره شكلًا من أشكال التمييز والمعاملة المهينة، لا سيما عندما يُفرض كعقوبة دون موافقة المتهم أو في غياب ضمانات قانونية كافية.
وأضاف أن العدالة الجنائية لا يجب أن تتحول إلى مجال لإجراء تجارب طبية أو نفسية على الجناة، بل ينبغي أن تبقى محكومة بمبادئ الشرعية، والعدالة، والكرامة، وهي المبادئ التي يتقاطع معها هذا الإجراء بشكل حاد.
وأوضح الناشط الحقوقي أن الإخصاء الكيميائي وإن كان يهدف إلى تقليل خطر التكرار في بعض الحالات إلا أن فاعليته لا تزال موضع نقاش علمي وأخلاقي واسع، إذ تشير بعض الدراسات إلى أنه قد يؤدي إلى خفض معدلات إعادة ارتكاب الجرائم، بينما تبرز دراسات أخرى محدودية أثره، بسبب تجاهله للأسباب النفسية والاجتماعية العميقة التي تقف وراء السلوك الإجرامي، والتي لا يمكن علاجها بالعقاقير وحدها.
وشدد الزيني على أن الطريق نحو الوقاية الفعالة من الجرائم الجنسية يجب أن يمر من خلال بدائل أكثر إنسانية وفعالية، مثل برامج العلاج النفسي والسلوكي، والتأهيل الاجتماعي، والتثقيف الجنسي، وتعزيز آليات الكشف المبكر والتدخل الوقائي، مؤكدًا أن بناء مجتمع أكثر أمانًا لا يمكن أن يتم على حساب كرامة الإنسان أو حقوقه الأساسية.
وأكد أن دعم المعتدين في إعادة فهم سلوكهم وتحليل دوافعه، عبر جلسات علاج نفسي متخصصة، إلى جانب إدماجهم في برامج تأهيل مهني واجتماعي مدروسة، يمكن أن يسهم بفاعلية في تقليل خطر التكرار، دون اللجوء إلى إجراءات جسدية متطرفة قد تُلحق ضررًا أكبر من الفائدة.
ودعا الزيني إلى فتح نقاش مجتمعي وقانوني موسّع، تشارك فيه جهات قضائية وطبية ونفسية وحقوقية، للنظر في مدى جدوى هذا الإجراء، مع التأكيد على ضرورة التوازن بين حماية المجتمع من الجرائم، وصيانة المبادئ الإنسانية الأساسية التي تشكّل جوهر العدالة الحقيقية.