إيران تحت المجهر الحقوقي.. القمع يتصاعد وخبراء يحذرون من اقتراب "نقطة الانفجار"
انتهاكات جسيمة وسط صمت دولي
عاماً بعد عام، تواصل إيران ونظامها بقيادة علي خامنئي، ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وسط انشغال دولي بالحرب في غزة وأوكرانيا، بحسب تقرير حقوقي حديث.
ويرى خبراء في الشأن الإيراني تحدّثوا لـ"جسور بوست" أن طهران أخفقت مجدداً في اختبار حقوق الإنسان، رغم وفرة الأدلة والتوثيقات التي تدينها، مرجّحين عدم حدوث تغيير جوهري في سلوك النظام في المستقبل القريب، ومعتبرين أن هذه الانتهاكات قد تكون من بين الأسباب التي تُعجّل بسقوطه.
وبحسب التقرير السنوي الصادر حديثاً عن منظمة العفو الدولية لعام 2024، فإن إيران، التي يحكمها نظام ديني معقّد، واصلت فرض رقابة مشددة على الإعلام، والتشويش على القنوات الفضائية، وحجب أجزاء من محتوى التطبيقات الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي.
كما استمرت السلطات في حظر كل الأحزاب السياسية المستقلة، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات العمالية، وعرّضت العديد من العمال والناشطين، بمن فيهم ممرضون ومدرسون، لإجراءات عقابية بسبب مشاركتهم في إضرابات وتجمعات سلمية.
وفي يناير 2024، أقرت الحكومة مرسوماً يحظر استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN)، مجبرة المستخدمين على الاعتماد على شبكة الإنترنت المحلية.
وفي يونيو، رُفعت دعاوى جنائية ضد مئات الأشخاص بسبب انتقادهم العلني للرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، فيما تلقى آخرون مكالمات تهديد أو استدعاءات أمنية، بعد أن صنّفت السلطات الدعوات لمقاطعة الانتخابات الرئاسية عبر الإنترنت كـ"جريمة"، بحسب التقرير المنشور في أبريل.
جملة من الانتهاكات
ووفقاً للتقرير ذاته، ارتكبت السلطات انتهاكات متكررة بحق المتظاهرين، والنساء والفتيات اللاتي يتحدين قوانين الحجاب الإلزامي، والصحفيين، والفنانين، والكتّاب، والأكاديميين، والطلاب، وأفراد مجتمع الميم، وأبناء الأقليات العرقية والدينية، والمدافعين عن حقوق الإنسان، لا سيما عشية الذكرى الثانية لانتفاضة 2022، في سبتمبر 2024.
فيما شملت الانتهاكات الحقوقية الاستجوابات القسرية، والاعتقال التعسفي، والاختفاء القسري والإعدام، والمحاكمات الجائرة التي أدّت إلى أحكام بالسجن أو الجلد أو الغرامات، بالإضافة إلى الفصل من العمل أو الدراسة.
وسُجّلت وفيات في مراكز الاحتجاز في ظروف مريبة، وسط تقارير موثوقة عن تعرّض الضحايا للتعذيب وسوء المعاملة، بما في ذلك الحرمان من الرعاية الطبية.
ومن بين الضحايا محمد مير موسوي، الذي توفي في أغسطس 2024 بعد يوم من اعتقاله، حيث زعمت السلطات أولاً أنه تُوفي بنوبة قلبية، قبل أن يثير مقطع فيديو لجثته المُشوّهة غضباً شعبياً واسعاً، وتم توقيف خمسة عناصر من الشرطة، دون الكشف عن تفاصيل محاسبتهم، بحسب التقرير.
وأفاد مركز عبد الرحمن برومند لحقوق الإنسان بإصدار ما لا يقل عن 186 حكماً بالجلد خلال عام 2024، كما نُفّذت عقوبات الجلد وبتر الأطراف. فيما دخل المعارضون مهدي كروبي، ومير حسين موسوي، وزهرة رهنورد عامهم الرابع عشر قيد الإقامة الجبرية التعسفية.
وفي ما يتعلق بحقوق النساء، واصلت السلطات معاملتهن كمواطنات من الدرجة الثانية في مجالات متعددة، كحقوق الزواج والطلاق وحضانة الأطفال والعمل والميراث والمناصب العامة.
وبقي الحد الأدنى القانوني لزواج الفتيات عند 13 عاماً، مع إمكانية حصول الآباء على إذن قضائي لتزويجهن قسرياً في سن أصغر.
واستخدم النظام تهماً ذات دوافع سياسية يعاقب عليها بالإعدام بحق ناشطات حقوقيات؛ إذ صدر حكم بإعدام شريفة محمدي في يونيو 2024. كما طبّقت السلطات، منذ أبريل، خطة "نور" لتعزيز القمع ضد النساء الرافضات للحجاب، من خلال الرقابة الرقمية وتقنيات التعرف على الوجه.
وفي يوليو، أطلق عناصر من الشرطة النار على سيارة امرأة تُدعى آرزو بدري أثناء محاولة مصادرتها، ما أدى إلى إصابتها بجروح بالغة.
انتهاك الأقليات واللاجئين
أما الأقليات العرقية –من عرب الأهواز، والأذريين الأتراك، والبلوش، والأكراد، والتركمان– فواجهوا تمييزاً واسع النطاق في التعليم، والعمل، والإسكان، والمناصب العامة، وسط تراجع الاستثمارات الحكومية في مناطقهم، ما أسفر عن تفاقم الفقر والتهميش، بينما قتلت قوات الأمن وأصابت العشرات من "الكولبر" (ناقلي البضائع الأكراد) و"السوختبر" (ناقلي الوقود البلوش) على الحدود دون مساءلة.
وتعرضت الأقليات الدينية، من البهائيين، والمسيحيين، ودراويش غنابادي، واليهود، والسنة، واليارسان، لتمييز منهجي في مجالات التعليم، والعمل، والتبني، والمناصب، وحرية العبادة.
واقتحمت السلطات كنائس منزلية واعتقلت متحولين إلى المسيحية، فيما عانى البهائيون من انتهاكات واسعة، شملت الاعتقال التعسفي، ومداهمة منازلهم، وحرمانهم من التعليم الجامعي.
أما اللاجئون والمهاجرون، لا سيما الأفغان، فواجهوا تمييزاً ممنهجاً في فرص التعليم والسكن والعمل والرعاية الصحية، مع تنفيذ السلطات عمليات اعتقال جماعية وترحيل قسري، بلغت 850,000 شخص بين مارس ونوفمبر 2024، دون مراعاة الإجراءات القانونية الواجبة.
ويؤكد التقرير أن الإفلات من العقاب ما زال سائداً بشكل منهجي، حيث لم يُحاسَب المسؤولون عن القتل غير المشروع، والتعذيب، والاختفاء القسري، وغير ذلك من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي وحقوق الإنسان، التي ارتُكبت في عام 2024 وما قبله.
جزء من المشكلة لا الحل
بدوره قال المحلل السياسي المتخصص في الشأن الإيراني، وجدان عفراوي، إن الانتهاكات التي تشهدها إيران لا يمكن فصلها عن تركيبة النظام السياسي القائم، مشيرًا إلى أن "السلطة القضائية في البلاد ليست جزءًا من الحل، بل هي جزء أصيل من المشكلة، إذ تنفذ ما يُملى عليها من قبل الحاكم الفعلي، المرشد الأعلى علي خامنئي، صاحب الصلاحيات المطلقة، والتي تُمارس غالبًا بوسائل قمعية.
وأضاف عفراوي في تصريح لـ"جسور بوست": "من غير المرجّح حدوث أي تحسن في أوضاع الحقوق والحريات في ظل النظام القائم، فالسلطة القضائية لن تراجع سياساتها القمعية لا تجاه الأفراد، ولا تجاه الحريات الجماعية أو حرية الصحافة".
واعتبر أن "رد فعل النظام الإيراني على الضغوط الداخلية والخارجية يأتي دائمًا بمزيد من التشدد؛ إذ ينظر النظام إلى أي انفتاح أو منح للحريات باعتباره تهديدًا وجوديًا، ويعامله كأنه إعلان حرب، مما يدفعه إلى إحكام قبضته الأمنية أكثر فأكثر".
وشدد عفراوي على أن "إنكار النظام الإيراني لارتكاب انتهاكات داخل البلاد لم يعد مقبولًا من قبل المجتمع الدولي، ولا من منظمات حقوق الإنسان، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية، بالنظر إلى حجم التقارير والأدلة الموثقة التي تؤكد وقوع هذه الانتهاكات".
وأوضح أن "عددًا كبيرًا من الضحايا تعرّضوا للإعدام وللتعذيب والاعتقال التعسفي، أو أُصيبوا بالرصاص الحي خلال الاحتجاجات، ما أدى إلى فقدان أطراف من أجسادهم أو أعينهم، وقد تمكن بعضهم من مغادرة البلاد وتقديم شهاداتهم، مما يعزز مصداقية التقارير الحقوقية".
وتابع: "تم توثيق الكثير من هذه الانتهاكات من قِبل المتظاهرين أنفسهم، فضلًا عن اختراقات استهدفت السجون الإيرانية، كشفت عن ممارسات تعذيب ممنهج، دعمتها وثائق مصورة ومقاطع فيديو، ما يعزز مصداقية المزاعم الحقوقية".
وعن قدرة المجتمع الدولي على اتخاذ خطوات فعلية، قال عفراوي: "للأسف، تفتقر منظمات حقوق الإنسان إلى أدوات الضغط الفعلي، ويقتصر دورها على التوثيق وكشف الجرائم للرأي العام، بما يُحدث ضغطًا إعلاميًا وقانونيًا فقط، دون تأثير مباشر".
وأضاف: "رغم فرض بعض العقوبات وتشكيل لجان متابعة، فإن تأثيرها يظل محدودًا، وقد تُفتح ملفات لمحاسبة النظام مستقبلاً، لكن لا يُتوقع أن يغيّر ذلك من الواقع القائم على المدى القريب".
ثورة قادمة في إيران
من جهتها، أكدت المحللة السياسية المتخصصة في الشأن الإيراني، منى سيلاوي، أن النظام الإيراني مستمر في إنكار انتهاكاته رغم عزلته المتزايدة، قائلة: "إيران اليوم معزولة اقتصاديًا، وشبه معزولة سياسيًا، ولا توجد آليات ضغط حقيقية تُجبرها على التوقف عن انتهاكاتها، ما يمنحها مساحة للمضي في القمع دون محاسبة".
وأضافت سيلاوي في تصريح لـ"جسور بوست"، أن "الملفات المفتوحة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها حرب غزة وأوكرانيا، تشغل المجتمع الدولي عن مواجهة ما يحدث في إيران، الأمر الذي استغله النظام لتوسيع دائرة بطشه".
وأشارت إلى وجود "شرخ عميق بين الشعب الإيراني والسلطة الحاكمة، حتى أبناء النخبة لم يعودوا يتقبلون القيود المفروضة باسم الدين، ما يجعل الثورة مسألة وقت، وليست احتمالًا بعيدا".
وفي قراءة مستقبلية للوضع الداخلي، توقعت سيلاوي أن تكون "الثورة القادمة في إيران ثورة خدمات، في ظل تدهور البنية التحتية، وانقطاع الكهرباء خلال الصيف، وتأثير ذلك على قطاعات حيوية كالصحة والنقل والغذاء، وصولًا إلى أزمة الخبز التي فجّرت احتجاجات مؤخرًا".
واختتمت تصريحها بالقول: "استمرار الانتهاكات وتفاقم الأزمات سيدفع إيران نحو الأسوأ، إلا إذا قدّم خامنئي تنازلات جوهرية في الملف النووي، لكن هذا يبدو مستبعدًا طالما بقي على قيد الحياة، إذ لا يُتوقع أن يتخلى طوعًا عن أدوات القمع التي يرتكز عليها نظامه. وربما يأتي التغيير بعده، حين تتبدل الحسابات".
تكشف شهادات المحللين والتقارير الحقوقية الدولية عن صورة قاتمة للوضع الداخلي في إيران، حيث تواصل السلطات ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان دون رادع، في ظل منظومة قضائية وأمنية تخضع بالكامل لإرادة المرشد الأعلى.
وبينما يغيب الضغط الدولي الفعّال وتنشغل العواصم الكبرى بأزمات إقليمية ودولية أخرى، تستفيد طهران من هذا الفراغ لتكثيف قبضتها الأمنية، وقمع كل صوت معارض، لكن تراكم مؤشرات الغضب الشعبي، وتصاعد فجوة الثقة بين النظام والمجتمع، واستمرار الانهيار الاقتصادي، وتدهور الخدمات الأساسية، قد يحوّل شرارة الغضب إلى حركة أوسع يصعب السيطرة عليها.