انتهاكات لا تنتهي.. الروهينغا تحت قبضة عسكرة الدولة وتحالفات السلاح
جرائم ميانمار خارج إطار الإدانة الدولية
لا تزال ميانمار غارقة في موجات متصاعدة من الانتهاكات الحقوقية، لا سيما بحق أقلية الروهينغا، التي تواجه منذ عام 2017 واحدة من أبشع صور العنف والاضطهاد العرقي، بحسب تقرير دولي حديث لمنظمة العفو الدولية.
ويستمر هذا الواقع المؤلم في ظل غياب إرادة دولية جادة لوقف التصعيد أو محاسبة المسؤولين، وسط تداخل المصالح السياسية للقوى الكبرى.
ويرى خبراء في الشأن الآسيوي والقانون الدولي أن استمرار الانتهاكات هو نتيجة مباشرة لغياب موقف دولي حازم، في ظل واقع تتحكم فيه حسابات المصالح لا المبادئ، وهو ما يُنذر بمزيد من المعاناة للروهينغا في المستقبل القريب.
وأوضح التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية أن عام 2024 شهد تصاعدًا في النزاع المسلح الداخلي بميانمار، حيث ارتفعت وتيرة الضربات الجوية والهجمات العسكرية على المدارس والمستشفيات والبنية التحتية المدنية، وأسفر هذا التصعيد عن حرمان آلاف المواطنين من حقهم في التعليم، وتزايد أعداد النازحين داخل البلاد.
هجوم غير مسبوق
ورغم طلب مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، في نوفمبر 2024 إصدار مذكرة توقيف بحق قائد المجلس العسكري الجنرال مين أونغ هلاينغ، على خلفية الجرائم المرتكبة ضد الروهينغا عام 2017، فإن الانتهاكات استمرت بوتيرة أعنف.
فقد قُتل نحو 200 من الروهينغا في أغسطس الماضي إثر قصف استهدفهم أثناء فرارهم من القتال شمالي ولاية راخين، واتُّهم جيش أراكان بالمسؤولية عن الهجوم، رغم نفيه الرسمي.
منذ الانقلاب العسكري في 1 فبراير 2021، دخلت البلاد في دوامة عنف متفاقمة، ولا يزال الجنرال مين أونغ هلاينغ يقود مجلس إدارة الدولة بعد الإطاحة بالحكومة المنتخبة.
ووفق التقرير، بات النزاع المسلح يطول مناطق واسعة من غرب وشمال وجنوب شرق البلاد، وأصبح المدنيون في قلب دائرة الخطر.
وتضاعفت الضربات الجوية التي نفذها الجيش في النصف الأول من 2024 خمس مرات مقارنة بالعام السابق، وتجاوز عدد النازحين داخليًا ثلاثة ملايين شخص، فيما بلغ عدد المعتقلين أكثر من 20 ألفًا، وقُتل أكثر من 6,000 مدني على يد الجيش خلال العام.
وقد تميزت الضربات الجوية بهمجيتها، مستهدفة مدارس وأديرة ومخيمات للنازحين، ففي سبتمبر الماضي، قصف الجيش مخيمًا في بلدة بيكون بولاية شان، ما أدى إلى مقتل ثمانية مدنيين، بينهم ستة أطفال، دون وجود اشتباكات قريبة.
اضطرابات متصاعدة
بدأت العملية العسكرية المناهضة للجيش، والمعروفة بـ"1027"، في 27 أكتوبر 2023، بقيادة ثلاث جماعات عرقية مسلحة: جيش أراكان، وجيش تحرير تانغ الوطني، وجيش التحالف الوطني الديمقراطي، ورغم أن هذه العملية تمثل تحديًا كبيرًا للجيش، فإن بعض أطرافها اتُّهمت أيضًا بارتكاب انتهاكات، منها التجنيد القسري وهجمات على المدنيين.
وأشار التقرير إلى استمرار الاعتقالات التعسفية والمحاكمات الجائرة، واستهداف الصحفيين والنشطاء بأحكام قاسية، ما أدى إلى خنق الحريات وتكميم الأفواه، ولا يزال الجيش يستخدم مراكز التحقيق لانتزاع الاعترافات بالإكراه قبل توجيه الاتهامات.
ومن الأمثلة الصارخة، الحكم بالسجن المؤبد على الصحفي ميو مينت أو، والحكم بالسجن 20 عامًا على زميله أونغ سان أو بتهم تتعلق بمكافحة الإرهاب، كما توفي المخرج بي مونغ سين بعد عامين من الاحتجاز دون علاج مناسب لإصاباته، وتوفي السياسي زاو مينت مونغ في السجن بعد معاناة مع سرطان الدم.
ووفق شهادات لاجئين من الروهينغا نقلها التقرير، اتُهم جيش أراكان بإحراق منازلهم، وقتل مدنيين، ونهب ممتلكاتهم، وهو ما نفاه الأخير.
كما وُجهت اتهامات إلى جماعات مسلحة من الروهينغا بتجنيد الأطفال قسرًا، في سياق حرب لا تترك مجالًا للمدنيين سوى الألم والموت.
فيما أُجبرت أكثر من 13 ألف مدرسة على الإغلاق بسبب النزاع، وفرَّت عائلات بأطفالها إلى تايلاند خشية القتل أو التجنيد القسري، في مشهد يعكس حجم التدمير الذي طال البنية التعليمية والاجتماعية في البلاد.
تحالف العسكر والتطرف
بدوره، يرى الخبير في الشؤون الآسيوية، إسلام المنسي، أن ما تشهده ميانمار من انتهاكات ممنهجة بحق المسلمين الروهينغا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياقات الإقليمية والدولية الراهنة.
ويصف المنسي في تصريح لـ"جسور بوست" الوضع بأنه "نتاج لتحالف عسكري-ديني"، حيث يتحالف الحكم العسكري القائم مع القوميين البوذيين المتطرفين، في ظل تأثير بالغ للبوذية السياسية التي لعبت دورًا محوريًا في ترسيخ ممارسات القمع والتمييز ضد الأقليات، وعلى رأسها الروهينغا.
وأوضح المنسي أن "المسلمين الروهينغا يمثلون الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، إذ يتعرضون لانتهاكات مزدوجة من قِبل جيش ميانمار والجماعات المسلحة كجيش تحرير أراكان، ما يضعهم في دائرة اضطهاد مستمرة من كلا الطرفين".
وفي ما يتعلق بآفاق تحسّن الوضع الحقوقي، يضيف المنسي أن "المشهد لا ينبئ بأي تحوّل قريب. الوضع غير مستقر على الأرض، والجهود الدولية تبدو غائبة أو عاجزة عن إحداث فارق حقيقي. لا توجد حتى الآن أي مبادرات دولية ذات وزن يمكن أن يُعوّل عليها في وقف التدهور أو محاسبة المسؤولين".
سقوط دولي
من جانبه، يرى أستاذ القانون الدولي، الدكتور أمجد شهاب، أن ما يجري في ميانمار يمثّل دليلًا صارخًا على غياب فاعلية القانون الدولي، قائلاً: "طالما أن المصالح الدولية غير مهددة، فإن التدخل لحماية منظومة حقوق الإنسان يبقى غائبًا أو انتقائيًا".
وشبه شهاب، في تصريح لـ"جسور بوست"، ما يحدث في ميانمار بما تتعرض له غزة، مشيرًا إلى أن “المنظومة الدولية ذاتها التي تتجاهل الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في فلسطين، لا تُبدي أي اكتراث يُذكر إزاء مأساة الروهينغا، رغم أنها واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث”.
ومضى قائلا: "الفرق الوحيد أن ما يحدث في غزة يحظى بقدر أكبر من الاهتمام لأنه يرتبط بأكثر من ملياري مسلم وبمقدسات دينية كبرى".
وشدد على أن "الغياب المتعمد لمواقف دولية حازمة في ميانمار يُكرّس الانهيار المتواصل لمنظومة القانون الدولي، التي تحوّلت إلى أداة يُستدعى تطبيقها فقط حينما تتماشى مع مصالح القوى الكبرى، مما يعيد فرض شريعة الغاب بدلاً من شريعة العدالة".
وفي ظل تفاقم الانتهاكات في ميانمار وتزايد معاناة أقلية الروهينغا بين مطرقة الحكم العسكري وسندان الجماعات المسلحة، يبدو أن الأفق لا يحمل بوادر انفراج قريب.
ومع استمرار الصمت الدولي، تتعزز قناعة الكثيرين بأن حقوق الإنسان باتت رهينة لمعادلات المصالح والنفوذ، لا للقانون والعدالة.
وبينما يتساقط الضحايا وتتوالى الجرائم، يبقى الروهينغا عنوانًا حيًا لفشل العالم في حماية المستضعفين، وانكشاف النظام الدولي أمام اختبار طال أمده، دون أن يحظى حتى الآن بإجابة عادلة.