استهداف يد العون.. كيف حوّلت إسرائيل المنظمات الإنسانية في غزة إلى أهداف عسكرية؟

استهداف يد العون.. كيف حوّلت إسرائيل المنظمات الإنسانية في غزة إلى أهداف عسكرية؟
أحد مباني الأونروا المدمرة في غزة

لم يعد القصف الإسرائيلي في غزة يقتصر على المنازل والمستشفيات والمدارس، بل وصل إلى قلب الجهود الإنسانية الأممية، وأحدثها استهداف منظمة الصحة العالمية وسط القطاع، لتصبح المؤسسات التي يفترض أن تحمل طوق النجاة للمدنيين في عين العاصفة.. هذا الاستهداف المباشر، الذي يأتي ضمن سلسلة طويلة من الاعتداءات الممنهجة على هيئات الإغاثة، يثير تساؤلات خطيرة حول الهدف الحقيقي من الحرب.. هل هو تحطيم الإرادة الإنسانية قبل البنية التحتية؟

وتشير تقارير أممية متعددة إلى أن الهجمات على مقار المنظمات الإنسانية في غزة لم تكن حوادث معزولة، بحسب الأمم المتحدة، منذ أكتوبر 2023 وحتى يونيو 2025، تم توثيق استهداف أكثر من 250 مقرًا ومرفقًا تابعًا لمنظمات أممية ودولية في القطاع، بينها مقار الأونروا، الهلال الأحمر، ومؤخرًا منظمة الصحة العالمية بهجمات طالت مقرّ إقامة طاقمها ومستودعها الرئيسي في دير البلح في وسط مدينة غزة بحسب ما ذكره المدير العام للمنظمة تيدروس أدهانوم غبرييسوس في منشور على منصة "إكس" بأنّ "مقرّ إقامة طاقم منظمة الصحة العالمية في دير البلح في غزة هوجم ثلاث مرات اليوم وكذلك مستودعها الرئيسي".

أبرز تلك الهجمات كان القصف الذي تعرض له مقر الأونروا شمال غزة في نوفمبر 2023، الذي أسفر عن مقتل 12 موظفًا إنسانيًا. 

وفي أبريل 2024، استُهدف مركز توزيع مساعدات تديره جمعية المطبخ الدولي، ما أدى إلى توقف نشاطها لأسابيع، بينما قُصفت سيارات الإسعاف التابعة للهلال الأحمر عدة مرات أثناء محاولاتها نقل الجرحى.

قصف منظمة الصحة العالمية

جاء استهداف مقر منظمة الصحة العالمية وسط القطاع ليؤكد تصعيدًا خطيرًا في هذه السياسة، إذ تم توثيق القصف عبر صور أقمار صناعية وشهادات موظفين محليين أفادوا بتدمير مخازن للأدوية والمستلزمات الطبية، وقالت المنظمة إن القصف تسبب بتعطيل خطط توزيع أدوية الأمراض المزمنة المنقذة للحياة، مثل الإنسولين وأدوية القلب.

وفي بيان رسمي، وصفت منظمة الصحة العالمية استهداف منشآتها بأنه هجوم مباشر على شريان حياة المدنيين، مطالبة بإجراء تحقيق دولي شفاف.

وتؤكد هيئات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية أن هذه الهجمات ليست أخطاءً فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة لتجريد السكان من أي مظلة حماية، وإجبارهم على النزوح، أو الاستسلام الكامل.

تقرير هيومن رايتس ووتش في مارس 2025 لفت إلى أن إسرائيل لم تكتفِ بتدمير المقرات، بل منعت أو عطّلت دخول قوافل الإغاثة بشكل متكرر، مع رصد أكثر من 1,000 حالة تأخير أو منع منذ بداية الحرب.

استهداف الموظفين الإنسانيين

منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، فقد أكثر من 240 موظفًا في الأونروا وحدها حياتهم نتيجة القصف، في حصيلة توصف بأنها الأسوأ في تاريخ المنظمة منذ تأسيسها، كما قتل وأصيب عشرات من متطوعي الهلال الأحمر ومنظمة أطباء بلا حدود.

هذه الأرقام المروّعة تكشف أن العاملين في المجال الإنساني أصبحوا في طليعة الضحايا، رغم وضوح شعاراتهم الإنسانية وعدم مشاركتهم في أي عمل عسكري.

وإلى جانب القصف المباشر، مارست إسرائيل أشكالًا أخرى من التضييق، أبرزها منع دخول مواد الإغاثة أو التحكم فيها، فتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) الصادر في مايو 2025 أشار إلى أن نسبة الاستجابة الإنسانية للقطاع لم تتجاوز 30% من الاحتياج الفعلي بسبب القيود الإسرائيلية.

واتهمت منظمات حقوقية تل أبيب بفرض موافقات أمنية معقدة لدخول شحنات الغذاء والدواء، ما أدى إلى فساد آلاف الأطنان من المساعدات بسبب الانتظار على المعابر.

تهديد حياة أكثر من مليوني إنسان

استهداف المنظمات الإنسانية والمرافق الطبية لا يهدد فقط الموظفين، بل يضاعف معاناة المدنيين المحاصَرين، ففي قطاع يواجه مجاعة غير مسبوقة وانهيارًا شبه كامل للمنظومة الصحية، أدى تعطيل جهود الإغاثة إلى تفاقم أزمات عدة منها: نفاد أدوية الأمراض المزمنة بنسبة 80%، وانخفاض توزيع الغذاء إلى أقل من 20% من الاحتياج اليومي، وارتفاع معدلات وفيات الأطفال والحوامل بسبب سوء التغذية وانعدام الرعاية الطبية.

ووفق منظمة الصحة العالمية، يهدَّد نحو نصف مليون طفل في غزة بالموت جوعًا أو الإصابة بأمراض خطيرة إذا استمر تعطيل قنوات المساعدات.

وليست هذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل المنظمات الإنسانية، ففي حرب 2014، قُصف مقر الأونروا في بيت حانون، وأدت الضربة لمقتل 16 مدنيًا، وفي حرب 2008-2009، دُمّرت مخازن غذائية للأمم المتحدة في حادث وصفه الأمين العام وقتها بأنه «غير مبرَّر».

لكن ما يميّز الحرب الحالية، وفق خبراء، هو اتساع نطاق الاستهداف ليشمل مختلف المنظمات بلا استثناء، بما في ذلك فرق الإغاثة المحلية الصغيرة.

أصوات دولية بلا قوة ردع

رغم الإدانات الدولية، بما فيها بيانات صادرة عن مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، لم يُفتح حتى الآن أي تحقيق دولي مستقل ذي ولاية واضحة لمحاسبة المسؤولين.

يعتبر القانون الدولي الإنساني –وخاصة اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية– أن استهداف المنظمات الإنسانية والإغاثية والمرافق الطبية يُعدّ جريمة حرب صريحة.

تنصّ هذه المواثيق بشكل قاطع على أن أفراد ومقرات المنظمات الإنسانية، وكذلك المستشفيات وسيارات الإسعاف والمراكز الطبية، يتمتعون بحصانة خاصة أثناء النزاعات المسلحة، ولا يجوز بأي حال من الأحوال استهدافهم أو عرقلة عملهم.

مبدأ الحماية الإنسانية

يقوم هذا المبدأ على فكرة جوهرية مفادها أن المدنيين والمصابين والمرضى يجب أن يتمتعوا بأقصى درجات الحماية والرعاية، وأن أي استهداف للمرافق الإنسانية والطبية يقوّض الأساس الذي يقوم عليه القانون الدولي الإنساني نفسه، وهو حماية الضحايا لا مضاعفة معاناتهم.

وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يُعتبر الاستهداف المتعمد للمرافق الإنسانية والطبية جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي. ويشمل ذلك: قصف المستشفيات أو مقرات المنظمات الإنسانية، وتدمير أو مصادرة المعدات الطبية، وكذلك منع وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين المحاصرين، إضافة إلى ترهيب أو قتل العاملين في المجال الطبي والإنساني.

ويحذر محللون من أن غياب الردع يشجع على استمرار هذه الانتهاكات، بل وتحويل المساعدات الإنسانية نفسها إلى أداة في الحرب.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية