من ميادين القتال إلى جبهات الفقر.. كيف تدفع الطبقات الهشة في إسرائيل ثمن الحرب؟
من ميادين القتال إلى جبهات الفقر.. كيف تدفع الطبقات الهشة في إسرائيل ثمن الحرب؟
بينما تشتعل الجبهات العسكرية، تخوض إسرائيل حربًا من نوع آخر داخل حدودها.. حربٌ اقتصادية شرسة تهدد استقرار المجتمع من الداخل.
فمع مرور أشهر على اتساع رقعة الحرب في غزة وتوتر الأوضاع على الحدود الشمالية مع لبنان، بدأت تداعيات هذه الحرب تنعكس بشكل غير مسبوق على الاقتصاد الإسرائيلي، لتكشف هشاشة بعض ركائزه، وترفع معدلات البطالة والفقر إلى مستويات قياسية، ما ينذر بأزمة اجتماعية طويلة الأمد قد تكون أصعب من أي مواجهة عسكرية.
شهد الاقتصاد الإسرائيلي أزمات سابقة في سياقات حربية، أبرزها حرب لبنان الثانية عام 2006، وحرب غزة في 2014، حين سجّل الناتج المحلي انكماشًا مؤقتًا، لكن التعافي كان سريعًا بفضل استقرار الاستثمارات الخارجية واستمرار السياحة.
لكن هذه المرة، بحسب خبراء الاقتصاد، تختلف جذريًا؛ إذ تترافق الحرب مع أزمة ثقة سياسية داخلية، وحالة انقسام مجتمعي حاد على خلفية الانتقادات الواسعة للحكومة وسوء إدارتها للأزمة، ما يجعل الطريق إلى التعافي أصعب وأكثر تكلفة.
أرقام صادمة
وفقًا لتقرير صادر عن "مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي" في يونيو 2025، قفز معدل البطالة إلى 14.2%، وهو الأعلى منذ انتفاضة الأقصى عام 2002، فيما تجاوز عدد العاطلين عن العمل حاجز 760 ألف شخص.
قطاع التكنولوجيا المتقدمة (الهاي تك)، الذي يشكّل العمود الفقري للصادرات الإسرائيلية، خسر وحده أكثر من 120 ألف وظيفة، نتيجة توقف المشاريع الدولية وخروج رؤوس أموال أجنبية، بحسب تقديرات "جمعية الشركات الناشئة في إسرائيل".
وتلقّى القطاع السياحي، الذي أسهم عام 2019 بما يقارب 6% من الناتج المحلي الإجمالي، ضربة قاصمة؛ إذ أعلنت "هيئة السياحة الإسرائيلية" أن نسبة الحجوزات السياحية انخفضت أكثر من 90% منذ أكتوبر 2024.
وشهدت المدن التي كانت تعتمد على السياحة كمصدر رئيسي للدخل، مثل القدس وتل أبيب وإيلات، إغلاق مئات الفنادق والمطاعم، وتسريح آلاف العاملين، ما ضاعف أزمة البطالة والفقر المحلي.
هروب الاستثمارات ورأس المال
تشير بيانات "بنك إسرائيل" إلى خروج استثمارات أجنبية مباشرة بأكثر من 18 مليار دولار منذ بداية الحرب، وسط قلق المستثمرين من استمرار النزاع وتوسع رقعته إقليميًا.
كما توقفت مشاريع عملاقة، بينها خطوط مترو تل أبيب وخطط توسيع البنية التحتية، بعد أن جرى تحويل الموازنات الطارئة لتغطية تكاليف الحرب، التي قدرتها وزارة المالية الإسرائيلية في مايو 2025 بأكثر من 58 مليار دولار حتى الآن.
لتمويل الحرب، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن زيادات ضريبية مؤلمة، شملت رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 19%، وزيادة الضرائب على الشركات الكبيرة.
ترافق ذلك مع تخفيضات كبيرة في الإنفاق المدني والخدمات الاجتماعية، ما دفع عشرات الآلاف للخروج في مظاهرات احتجاجية في تل أبيب ومدن أخرى، رافعين شعارات ضد سياسات "التقشف الحربي" التي تضر بالمواطن العادي أكثر مما تضر بالأثرياء.
تداعيات اجتماعية عميقة
في تقرير مشترك صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) ومنظمة العمل الدولية (ILO) في يوليو 2025، حذّر الخبراء من أن استمرار الحرب سيؤدي إلى ارتفاع معدل الفقر في إسرائيل إلى 22% بحلول نهاية العام، مع اتساع فجوة اللامساواة بين المركز والمناطق الطرفية، لا سيما في النقب والجليل.
التقرير لفت أيضًا إلى الخطر الأكبر: ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، حيث بلغت لدى الفئة العمرية 18-24 عامًا نحو 28%، ما يُهدد بنمو موجات من الإحباط الاجتماعي قد تتطور إلى عنف داخلي.
بيّن تقرير صادر عن "مركز عدالة الاجتماعية الإسرائيلي" أن النساء والأسر أحادية المعيل هم الأكثر تضررًا، من استمرار الحرب إذ فقدت النساء العاملات في قطاعات السياحة والتجزئة والخدمات أكثر من 40% من وظائفهن، فيما شهدت مناطق مثل عسقلان وأشدود معدلات بطالة بين النساء تجاوزت 30%.
الأمر ذاته ينطبق على المواطنين العرب في إسرائيل، الذين يشكلون نحو 20% من السكان؛ إذ سجلت بطالة قياسية بين الشباب العرب بلغت 34% في بعض القرى والمدن، وفق تقرير مشترك أصدرته مؤخرًا جمعيات حقوقية محلية.
تكاليف الحرب
في خضم هذا النزيف الاقتصادي، يزداد الجدل في الداخل الإسرائيلي حول أولويات الإنفاق: هل تستمر الحكومة في ضخ مليارات الدولارات في المجهود العسكري؟ أم تلتفت لمعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت حتى باتت تهدد تماسك المجتمع نفسه؟
يشير محللون إلى أن فاتورة الحرب لا تُقاس فقط بما يُصرف على شراء الذخائر والدبابات، بل بما تتركه من ندوب اقتصادية طويلة الأمد تضرب قطاعات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
في نهاية يونيو 2025، خفّضت مؤسسات تصنيف عالمية مثل "موديز" و"ستاندرد آند بورز" التصنيف الائتماني لإسرائيل من مستقر إلى سلبي، محذرة من أن استمرار الحرب وعدم وضوح الأفق السياسي قد يدخل الاقتصاد في دوامة ركود طويل.
ويتوقع "مركز الأبحاث الاقتصادية الإسرائيلي" أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 3.8% هذا العام، في أسوأ أداء منذ تأسيس الدولة.
أزمة تهدد النسيج المجتمعي
في وقتٍ تكاثرت فيه التحذيرات الأممية والدولية من تداعيات الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي، جاءت أصوات من الداخل، لا تقل حدةً وقلقًا، لتؤكد عمق الأزمة التي تتجاوز الأرقام المجردة وتمسّ حياة ملايين الأسر الإسرائيلية.
ففي تقرير أصدره مركز عدالة الاجتماعية الإسرائيلي في مايو 2025، حذّر المركز من انهيار الطبقة الوسطى في مدن الجنوب والشمال، مشيرًا إلى فقدان أكثر من 35% من النساء وظائفهن في قطاعات التجزئة والخدمات، وهي قطاعات تُعدّ شريانًا أساسيًا للاقتصاد المحلي.
توازى ذلك مع تقرير (چيش دين) الذي انتقد الأولويات الحكومية في تخصيص أغلب الموازنات الطارئة للإنفاق العسكري بدلًا من الاستثمار في الصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي. التقرير خلص إلى أن تجاهل هذه القطاعات سيقود إلى أزمة اجتماعية طويلة الأمد تهدد الاستقرار المجتمعي في العمق.
من جهتها، سلطت جمعية "سيكوي–أفق" الضوء على أثر الحرب على المواطنين العرب في إسرائيل، لافتةً إلى تجاوز معدلات البطالة بين الشباب العرب في الجليل والنقب حاجز 30%، وهو ما يكرّس فجوة التمييز التاريخي، بينما أوضح تقرير "أدفا" أنّ نحو 60% من الأسر في النقب تعاني صعوبة بالغة في تلبية احتياجاتها الشهرية منذ اندلاع الحرب، بسبب توقف قطاعات السياحة والزراعة والصناعة الخفيفة.
هذه المخاوف المحلية تقاطعت مع تقارير أممية وأخرى صادرة عن البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والتي رسمت صورة قاتمة لمستقبل الاقتصاد الإسرائيلي، متوقعةً تراجع النمو إلى أقل من 1% في 2025 وارتفاع العجز المالي إلى مستويات غير مسبوقة.
في مواجهة هذه الأزمة المتشعبة، أوصت المراكز الحقوقية والبحثية في إسرائيل بجملة من الإجراءات العاجلة، أبرزها: إعادة ترتيب أولويات الميزانية وتحويل جزء من الإنفاق العسكري لدعم الخدمات العامة، وإطلاق برامج تشغيل موسعة للشباب والأمهات العاطلات عن العمل، وإعادة تمويل مشاريع البنية التحتية والتعليم خاصةً في المناطق المهمشة، وتعزيز سياسات المساواة لتقليل الفجوات بين المركز والأطراف وبين العرب واليهود.
وتُظهر الأرقام والوقائع أن الحرب في غزة، إلى جانب التوترات الإقليمية، تحوّلت إلى حرب استنزاف اقتصادي واجتماعي داخل إسرائيل نفسها، تدفع ثمنها الشرائح الضعيفة أولًا.