براءة مُستهدفة.. تسمم أطفال في الصين يكشف هشاشة الحق في غذاء صحي

براءة مُستهدفة.. تسمم أطفال في الصين يكشف هشاشة الحق في غذاء صحي
أطفال في الصين يتناولون وجباتهم

في حادثة مأساوية أعادت فتح جراح قديمة حول سلامة الأغذية في الصين، تسمم أكثر من 230 طفلاً في روضة أطفال بمدينة تيانشوي بمقاطعة قانسو بعد تناولهم أطعمة ملوّنة بطلاء صناعي يحتوي على نسب كارثية من الرصاص.

القصة لم تكن مجرد خطأ فردي، بل تجسيدا صارخا لتقاعس إداري؛ فساد متراكم، وغياب فعلي للرقابة، لتتأرجح حياة هؤلاء الأطفال الأبرياء بين أطماع الربح السريع وتقصير المؤسسات الرقابية.

وفتحت الحادثة، التي هزت الرأي العام الصيني ولفتت انتباه العالم، مجددًا ملفًا مؤلمًا حول الحق في غذاء صحي وآمن، وهو حق منصوص عليه في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ويُفترض أن يكون مصونًا، خاصةً عندما يتعلق الأمر بأضعف الفئات وهم الأطفال.

كيف تحوّل الغذاء إلى أداة قتل؟

في مسعى لجذب المزيد من الأطفال عبر تقديم وجبات ذات ألوان زاهية، اشترت إدارة الروضة صبغات صناعية عبر الإنترنت رغم أن العبوات حملت تحذيرات صريحة بأنها غير صالحة للاستهلاك الآدمي، وفق ما أوردته صحيفة "الغارديان" البريطانية"، الصادم أن أحد هذه الألوان احتوى على نسبة رصاص تفوق الحد القانوني الآمن بما يقارب 400,000 مرة.

في البداية، أُدخل 235 طفلًا المستشفى إثر معاناتهم من آلام في المعدة وغثيان وتحول أسنان بعضهم إلى اللون الأسود، ومع تعمق التحقيقات، تبيّن إصابة 247 طفلًا ومستوى من الموظفين بارتفاع شديد في نسب الرصاص بالدم.

وبدلًا من تحمّل المسؤولية والشفافية، حاولت أطراف عديدة التستر على الفضيحة، حيث عدّل مستشفى تيانشوي الشعبي الثاني نتائج اختبارات طفلين لتُظهر مستويات أقل كثيرًا من الحقيقة، بينما تجاهل مكتب التعليم المحلي التفتيش الإلزامي على روضة تعمل بدون ترخيص منذ عامين، وسط شبهات بتلقي رشاوى.

رغم الإصلاحات المتلاحقة منذ كارثة حليب الأطفال الملوث بالميلامين عام 2008 –والتي أدت إلى وفاة ستة أطفال وإصابة أكثر من 300 ألف آخرين– لا تزال مشكلات سلامة الغذاء تُشكّل تهديدًا دائمًا في الصين.

ففي عام 2022 فقط، رصدت الإدارة العامة لتنظيم السوق أكثر من 17 ألف حالة انتهاك متعلقة بسلامة الأغذية، وتؤكد منظمة الأغذية والزراعة (FAO) أن الصين، رغم تقدمها في تطوير قوانين الأغذية، تعاني من فجوة بين النصوص القانونية والتطبيق الفعلي، خاصةً في المؤسسات الصغيرة ودور الحضانة والمدارس الريفية.

الحق في الغذاء الصحي

ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (ICESCR)، الذي صادقت عليه الصين، على أن الحق في الغذاء لا يقتصر على توافره فحسب، بل يجب أن يكون آمنًا وصحيًا ومقبولًا ثقافيًا. كما تلزم مبادئ الأمم المتحدة لحقوق الطفل الحكومات بحماية الأطفال من الأغذية الضارة.

لكن التقرير الرسمي الصادر بعد الحادثة كشف قصورًا مؤسفًا على كل المستويات: غياب الرقابة الفعالة، ضعف تطبيق القوانين، وتواطؤ محتمل من بعض المسؤولين الذين اختاروا حماية مصالحهم على حساب حياة مئات الأطفال.

وأثار الحادث موجة غضب واسعة في الشارع الصيني، ترجمتها احتجاجات ليلية أمام روضة تيانشوي، حيث أظهرت لقطات مصورة اشتباكات بين الشرطة وأولياء الأمور، الذين طالبوا بمحاسبة المسؤولين عن تسميم أطفالهم.

"كيف سمحوا بحدوث ذلك؟!" تساءل والد أحد الأطفال، مضيفًا: "نثق بالدولة ونرسل أطفالنا للمدارس لنحميهم.. لا لنسلمهم للموت البطيء".

العلاج وتحركات الدولة

أعلنت السلطات الصينية اعتقال ستة أشخاص، بينهم مديرة الروضة، والتحقيق مع 27 موظفًا في المدرسة والمستشفى والإدارة المحلية، كما تم علاج الأطفال المصابين، وأُعلن عن انخفاض متوسط نسب الرصاص في دمائهم بنسبة 40% بعد العلاج، بينما بقي طفل واحد فقط تحت الرعاية الطبية.

لكن خبراء محليين ودوليين يرون أن هذه الإجراءات، رغم أهميتها، لا تعالج الجذور العميقة للأزمة: نظام رقابي معقد لكنه هش، وثقافة بيروقراطية تمنح الأولوية لتجميل الأرقام لا لحماية الأرواح.

وفقًا لتقرير "هيومن رايتس ووتش"، تُعَدّ هذه الحادثة دليلاً جديدًا على ضعف الشفافية والرقابة المستقلة في قضايا الصحة العامة بالصين، حيث تميل السلطات إلى تقليل حجم الأزمات حفاظًا على الاستقرار المجتمعي.

كما تؤكد منظمة الأغذية والزراعة "فاو" أن حوادث التسمم الغذائي في المدارس ودور الحضانة تُعَدّ ظاهرة عالمية، لكنها في الصين تحمل طابعًا خاصًا بسبب اتساع السوق الغذائي المحلي، واعتماد ملايين الأسر على التعليم الخاص الذي يخضع أحيانًا لرقابة أقل صرامة.

نحو ثقافة وقاية

الحادث يطرح تساؤلات جوهرية حول فلسفة إدارة سلامة الغذاء: هل ننتظر وقوع الكارثة ثم نتحرك، أم نعزز الثقافة الوقائية ونبني منظومة رقابة مستقلة بحق؟

خبراء سلامة الغذاء يدعون لتطبيق أنظمة رقابية متطورة تعتمد على الشفافية الكاملة، نشر نتائج التفتيش علنًا، وتوسيع دور المجتمع المدني والإعلام المستقل؛ باعتبارهم خط دفاع أول لحماية الحق في الغذاء الصحي.

ما حدث في روضة تيانشوي لم يكن حادثًا معزولًا بقدر ما هو عرض لمرض مؤسسي أعمق؛ حيث يتداخل الجشع البشري مع الإهمال البيروقراطي ليهدد الحق الأكثر بداهةً: الحق في غذاء صحي.

إن حماية هذا الحق تبدأ من الاعتراف بأن أمن الغذاء للأطفال ليس مجرد إجراء تنظيمي، بل هو التزام أخلاقي وقانوني يحمي حياة جيل كامل، وأي إخلال به هو جريمة بحق المجتمع بأسره.

لا تأتي حادثة تسمم أكثر من 230 طفلًا في روضة أطفال بالصين بمعزل عن سلسلة طويلة من الفضائح الغذائية التي هزّت البلاد في العقود الأخيرة، بدءًا من فضيحة حليب الأطفال الملوث بالميلامين عام 2008 التي أودت بحياة ستة أطفال وأصابت مئات الآلاف، وصولًا إلى قضايا استخدام زيت الطعام المعاد تدويره المعروف بـ"زيت المصارف"، هذه الحوادث المتكررة لم تكتفِ بتقويض ثقة الأهالي في المؤسسات التعليمية والخدمات الصحية، بل خلّفت أيضًا جروحًا عميقة في الوعي الجمعي الصيني، حيث بات الخوف من الغذاء الملوث هاجسًا مستمرًا يطول كل أسرة تقريبًا.

قيود الرقابة

تتفاقم هذه الأزمات في ظل قيود مشددة تفرضها السلطات على الإعلام المستقل، ما يعقد مهمة كشف المخالفات والانتهاكات مبكرًا.. فالتقارير الحقوقية تشير إلى أن الرقابة الإعلامية غالبًا ما تسعى لحماية صورة المؤسسات الرسمية على حساب مصلحة المواطنين، بينما تضطر رياض الأطفال الخاصة –في سوق يقدَّر حجمه بنحو 70 مليار دولار– للانخراط في منافسة محتدمة تدفعها أحيانًا لاتخاذ قرارات خطيرة، كما حدث عندما لجأت إدارة روضة تيانشوي إلى استخدام صبغات صناعية لإضفاء ألوان "أكثر جذبًا" على أطباق الطعام. تلك القرارات، مدفوعة بالربح والمظهر، تنقلب في النهاية إلى كوارث إنسانية باهظة الثمن.

ورغم توقيع الصين على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي ينص على الحق في غذاء صحي وآمن، تظل الممارسات المحلية أسيرة البيروقراطية والفساد، خاصة في المناطق النائية مثل مقاطعة قانسو حيث وقعت الحادثة الأخيرة. 

خبراء ومراقبون يرون أن الحل لا يكمن في العقوبات وحدها، بل في إصلاحات هيكلية تضمن شفافية نشر نتائج التفتيش الغذائي، وتفعيل الدور الرقابي للمجتمع المدني والإعلام، إلى جانب تدريب كوادر رياض الأطفال والعاملين في مجال التغذية وسلامة الغذاء بانتظام، لتتحول حماية صحة الأطفال من شعار رسمي إلى واقع ملموس يُترجم في كل وجبة تُقدَّم لهم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية