"فايننشيال تايمز": الذكاء الاصطناعي يدفع عجلة النمو في الولايات المتحدة
"فايننشيال تايمز": الذكاء الاصطناعي يدفع عجلة النمو في الولايات المتحدة
يعزز التبني السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتيرة النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، لكنه في المقابل يثير مخاوف متزايدة من فقدان الوظائف وارتفاع معدلات البطالة بين فئات محددة من القوى العاملة، وبينما تسارع الشركات الأمريكية إلى دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في أنظمتها التشغيلية، تبرز معالم تحوّل اقتصادي واجتماعي عميق بدأت آثاره بالظهور بالفعل.
ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "فايننشيال تايمز"، اليوم الأحد، بلغ استخدام الذكاء الاصطناعي في الشركات الأمريكية نقطة تحول واضحة، حيث بدأت مؤسسات مالية كبرى مثل بنك "يو بي إس" بنشر محللين افتراضيين لمساعدة الموظفين في مواكبة اتجاهات السوق.
في الوقت نفسه، حذّر المدير التنفيذي لشركة "أنثروبيك" من أن نصف وظائف المكاتب المبتدئة قد تختفي خلال فترة تتراوح بين عام وخمسة أعوام، في ظل موجات تسريح واسعة تقودها شركات مثل "آي بي إم" و"مايكروسوفت" و"غوغل".
سجّلت شركة "نفيديا" ارتفاعاً كبيراً في أرباحها وإيراداتها، ما يعكس ازدياد الطلب على معالجات الذكاء الاصطناعي، حتى مع التحذيرات التي أطلقها مستشار الرئيس دونالد ترامب، ستيف بانون، الذي وصف اضطراب سوق العمل بسبب الذكاء الاصطناعي بأنه سيكون من أبرز القضايا في انتخابات 2028.
تشير دراسات حديثة إلى أن البطالة بين الشباب تتزايد، ويرجح أن أحد أسباب ذلك هو دخول الذكاء الاصطناعي بقوة إلى مختلف القطاعات، بما في ذلك المالية، والرعاية الصحية، وتكنولوجيا المعلومات، ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى إدارات المبيعات والتسويق في غالبية المؤسسات.
الهيمنة الأمريكية التكنولوجية
حافظت الولايات المتحدة تاريخياً على موقع الريادة في تبني التكنولوجيا الحديثة، مدفوعة بإنفاق ضخم على البحث والتطوير، وتوسّع في استثمارات رأس المال غير الملموس مثل الابتكار والتنظيم المؤسسي وتصميم المنتجات، وقد ساعدها ذلك على التفوق في الإنتاجية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بالتزامن مع بزوغ عصر الإنترنت.
تتقدم الشركات الأمريكية حالياً على المستوى العالمي في استثمار الذكاء الاصطناعي، حيث يُتوقّع أن يبلغ الإنفاق الخاص في هذا المجال 109 مليارات دولار خلال عام 2024، وهو ما يفوق الإنفاق الصيني البالغ 9.3 مليارات دولار، ويتجاوز نظيره البريطاني البالغ 4.5 مليار دولار، بحسب تقرير صادر عن جامعة ستانفورد.
أنتجت المؤسسات الأمريكية 40 نموذجاً متقدماً في الذكاء الاصطناعي، مقارنة بـ15 نموذجاً في الصين وثلاثة نماذج فقط في أوروبا، وفقاً للباحثين في ستانفورد، يؤكد ذلك تفوّق أمريكا في مجال تطوير الخوارزميات وتدريب النماذج القادرة على تقديم حلول قابلة للتطبيق في مجالات متعددة.
فجوة متسارعة بين أمريكا وأوروبا
انتقد الباحث التكنولوجي ومدير معهد مستقبل التوظيف والدخل في نيويورك، جيم كلارك، البطء الأوروبي، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لا تكتفي بالتقدم فحسب، بل باتت تبتعد بشكل متسارع عن بقية دول العالم في هذا المجال، وأرجع ذلك إلى مرونة سوق العمل، وشهية المستثمرين، والانفتاح التنظيمي، وهي عناصر تفتقدها أوروبا التي تعاني من تفكك السوق وقيود بيروقراطية وتشريعية.
وسرّعت شركات أمريكية عديدة إطلاق أدوات ذكاء اصطناعي وكيلة خلال صيف 2024، ما يعكس توجهاً جديداً لاستخدام هذه الأدوات في التحليل والبحث، وليس فقط في الاستفسارات البسيطة، ويبدو أن هذا التوجه سيترجم قريباً إلى مكاسب كبيرة في الإنتاجية المؤسسية.
وضمّن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مشروع قانون الميزانية بنداً يمنع الولايات الأمريكية من تنظيم الذكاء الاصطناعي بشكل مستقل، ما يُتيح حرية أوسع للشركات لتطبيق هذه التقنيات دون عراقيل قانونية على المستوى المحلي.
وقد يعزز ذلك الفجوة الإنتاجية بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، تماماً كما حدث في التسعينيات عند تبني برامج الإنترنت والهواتف الذكية.
واستفادت الولايات المتحدة من بنية تحتية تنظيمية ومالية قوية، حيث احتضنت بيئة العمل شركات ناشئة طموحة، وتدفقت استثمارات ضخمة من عمالقة التكنولوجيا، ما سمح بسرعة غير مسبوقة في تطوير الذكاء الاصطناعي وتطبيقه عملياً في قطاعات واسعة من الاقتصاد.
المنافسة مع الصين
ظهرت تحديات جديدة للهيمنة الأمريكية من خلال مشروع "ديب سيك" الصيني، الذي يعتمد على منهجية المصدر المفتوح في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي وتصديرها دولياً.
ووفقاً لرائد الأعمال التايواني كاي-فو لي، تُحقق هذه النماذج انتشاراً واسعاً في الأسواق، رغم القيود الأمريكية المفروضة على تصدير الرقاقات والتقنيات المتقدمة.
وأوضح كاي-فو لي، مؤلف كتاب "القوى العظمى للذكاء الاصطناعي"، أن الصين لا تزال متأخرة في الإنفاق المؤسسي، إذ لا تميل الشركات الصينية إلى دفع مبالغ ضخمة مقابل البرمجيات، على عكس نظيراتها الأمريكية، لكن استمرار التطوير في البيئة المفتوحة قد يمنح الصين موقعاً مؤثراً في المستقبل، خاصة في حال نجاح هذه النماذج في تطبيقات المستهلكين.
أزمة التوظيف
أكّد خبراء اقتصاديون أن الاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي في الشركات يُعد شرطاً أساسياً لتحقيق قفزة إنتاجية طويلة الأمد، ما من شأنه أن يدفع عجلة النمو الاقتصادي بشكل عام، وقد يكون الذكاء الاصطناعي من بين قلة من العوامل القادرة على تحفيز أرباح الشركات الأمريكية في السنوات المقبلة.
لكن في المقابل، يُنذر التوسّع السريع في استخدام الذكاء الاصطناعي بحدوث اضطرابات اجتماعية، حيث تُظهر الاستطلاعات أن هناك رغبة متزايدة لدى المواطنين في إبطاء هذه الوتيرة.
وخلصت دراسة صادرة عن مؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس" إلى أن ارتفاع البطالة بين خريجي الجامعات مرتبط جزئياً بإحلال الذكاء الاصطناعي محل العمالة البشرية.
ويُهدد هذا التوجه التوازن الاقتصادي، إذ إن فقدان الوظائف قد يقلّص من قدرة الشباب على تأمين احتياجاتهم الأساسية مثل الإيجارات والمشتريات الاستهلاكية، وبذلك، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة مزدوجة: تُقدّم فرصاً للنمو والتطوير، لكنها تحمل في طياتها مخاطر اجتماعية وسياسية متزايدة، ما يضع صانعي القرار أمام تحديات كبرى في السنوات القادمة.