العيد في زمن الجوع والحصار.. الأضاحي غائبة والأطفال ينتظرون الخبز بدل الحلوى
العيد في زمن الجوع والحصار.. الأضاحي غائبة والأطفال ينتظرون الخبز بدل الحلوى
بينما تعلو التكبيرات وتضيء الشوارع احتفالاً بعيد الأضحى، تغرق ملايين الأرواح في فلسطين واليمن والعراق وليبيا والسودان في ظلال الحصار والدمار.
هناك، يتحول العيد من فرحة إلى مأساة، تختفي فيها الأضاحي والاحتفالات تحت وطأة الحروب والقيود الاقتصادية والعقوبات الدولية التي تقيد حياة الناس وتجعلهم أسرى معاناة مستمرة.
في اليمن، الذي دخل عامه العاشر من الحرب الأهلية الدامية، تعيش البلاد واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، وفق بيانات برنامج الأغذية العالمي لعام 2025، يعاني نحو 19 مليون يمني من انعدام الأمن الغذائي، بينهم أكثر من 7 ملايين على شفا المجاعة الحقيقية.
تتضاعف معاناة الناس مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، ما جعل من الحصول على أضحية العيد رفاهية مستحيلة لمعظم الأسر، ففي صنعاء، ارتفع سعر الخروف إلى أكثر من 600 ألف ريال يمني (ما يعادل 250 دولارًا)، وهو مبلغ يعادل تقريباً راتب أسرة متوسطة لشهرين كاملين، في بلد يعاني من انهيار اقتصادي وانخفاض متواصل في قيمة العملة المحلية. تقول فاطمة الزهراء، ناشطة يمنية، "في العيد لا نحلم إلا بالخبز والتمر، أما الأضحية فقد أصبحت أسطورة يتناقلها الأهل والأجداد".
وفي العراق، رغم انتهاء الحرب ضد تنظيم داعش، لا تزال آثار الدمار العميق التي خلفتها السنوات العشر من القتال والاحتلال ظاهرة في كثير من مناطق البلاد، وتشير تقارير صندوق النقد الدولي لعام 2025 إلى أن التضخم وصل إلى مستويات قياسية تجاوزت 45%، ما أثر على الأسعار ورفعت تكاليف المعيشة بشكل حاد، بما في ذلك أسعار اللحوم والأضاحي، وفي الموصل، المدينة التي شهدت دمارًا واسعًا للمساجد والأحياء، لا تتجاوز نسبة الأسر القادرة على شراء أضحية العيد 15% فقط. تقول سعاد، ربة منزل من الموصل: "حينما ترى جيرانك يختارون بين شراء الدواء لأطفالهم أو أضحية العيد، تدرك أن الحرب لم تنتهِ بعد". وفق منظمة اليونسكو، تم تدمير أكثر من 75% من المساجد التاريخية في الموصل بين 2014 و2017، والكثير منها ما زال ينتظر إعادة الإعمار.
في ليبيا، حيث يشهد الوضع الأمني استمرارًا في التدهور رغم بعض محاولات الاستقرار، يعيش نحو 2.3 مليون شخص في مناطق مختلفة يعانون من الفقر والبطالة المتفشية، وفق تقرير البنك الدولي 2024. أدت النزاعات المسلحة المتقطعة إلى تدمير البنية التحتية الاقتصادية، وارتفاع أسعار اللحوم بنسبة تجاوزت 200% خلال عام واحد. سعر الخروف يتراوح اليوم بين 400 إلى 600 دينار ليبي (ما يعادل 90 إلى 130 دولارًا)، وهو مبلغ مرتفع للغاية بالنسبة لأغلب الأسر التي تكافح من أجل تأمين الغذاء اليومي. كما تعاني المرافق الصحية من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات، مما يزيد من معاناة الناس في هذه الفترة الحساسة من العام.
في السودان، البلد الذي يمر بحالة حرب أهلية مفتوحة منذ أبريل 2023، تصاعدت المآسي الإنسانية بشكل خطير.
وفق منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن 27 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بينما نزح 9 ملايين داخليًا وخارجيًا، وأُجبرت آلاف الأسر على التخلي عن طقوس العيد لتجنب الموت جوعًا. في مناطق مثل دارفور، لم تعد الأضحية سوى ذكرى بعيدة، تحل محلها حفنة من القمح أو بعض الدقيق.
تقول فاطمة محمد، من سكان الفاشر، "العيد يعني فقط أننا ما زلنا أحياء، ولا شيء آخر".
إضافة إلى ذلك، تُظهر تقارير المفوضية السامية للاجئين ارتفاعاً في معدلات سوء التغذية بين الأطفال، التي تجاوزت 55% في بعض المناطق، ما يعكس هشاشة الأوضاع الإنسانية.
ثم تأتي غزة التي تشكل واحدة من أشد الكوابيس التي تعاني منها شعوب العالم في الوقت الراهن، فمنذ أحداث أكتوبر 2023، والتي شهدت تصعيدًا عسكريًا واسع النطاق وتدميرًا شاملًا للبنية التحتية، باتت غزة تعيش حالة مجاعة فعلية بلا منازع، وأدى تدمير أكثر من 1100 مبنى مدني، بما فيها 45 مسجدًا بالكامل منذ بداية العمليات العسكرية حسب وزارة الأوقاف الفلسطينية، إلى انهيار شبه تام للحياة الطبيعية، وتعيش 2.3 مليون نسمة في غزة واقعًا مأساويًا، حيث يُشير تقرير الأمم المتحدة لعام 2025 إلى أن نسبة الفقر تخطت 85%، ونحو 90% من الأسر تعتمد على المساعدات الغذائية.
على صعيد آخر، المساجد والمقدسات لا تقتصر على كونها أماكن للعبادة فقط، بل هي فضاءات مجتمعية تجمع الناس في مناسبات العيد، وتذكّر بروح الوحدة والتآخي. التدمير الممنهج لهذه المنشآت الدينية في مناطق مثل غزة، العراق، وليبيا، يشكل ضربة مزدوجة للمجتمع، حيث تُدمّر ليس فقط الحجر، بل يُهدد النسيج الاجتماعي والروحي للمجتمع نفسه.
في العراق، تؤكد تقارير منظمة اليونسكو أن نحو 60% من المساجد التاريخية في مدينة الموصل تضررت بشكل كبير خلال النزاعات، وما زالت تعاني من الإهمال وقلة الدعم لإعادة تأهيلها، ما يحول دون استعادة دورها الاجتماعي والروحي، أما في غزة، فتشير وزارة الأوقاف الفلسطينية إلى أن أكثر من 45 مسجداً تعرضت للتدمير الكامل منذ تصاعد العدوان في أكتوبر 2023، وتحولت ساحات الصلاة إلى أنقاض وسط دمار واسع، ومع ذلك، يصر السكان على إقامة الصلوات في الهواء الطلق وسط الركام، في مشهد يجسد صمودهم وتمسكهم بالإيمان رغم كل الظروف القاسية.
الأزمة الاقتصادية الحادة في هذه المناطق تزيد من تعقيد مأساة العيد، في اليمن تشير إحصائيات برنامج الأغذية العالمي لعام 2025 إلى أن حوالي 65% من الأطفال يعانون من سوء تغذية مزمن، ما يجعل حتى فكرة شراء الحلوى في العيد حلماً بعيد المنال للكثير من الأسر، أما في العراق، فتسببت العقوبات الأمريكية المفروضة على البنك المركزي العراقي في شح الدولار وارتفاع أسعار المواد الأساسية بنسبة تصل إلى 45%، ما أثر بشكل مباشر على قدرة الناس على شراء المكسرات والحلويات التي تشكل جزءاً من طقوس العيد.
معدلات النزوح في هذه الدول ترتفع بشكل مستمر، وهو ما يعني أن ملايين الأسر تحتفل بالعيد بدون بيوت ولا مأوى. في السودان فقط، نزح أكثر من 8 ملايين شخص منذ بداية النزاع المسلح في أبريل 2023، وفقاً لتقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهذا النزوح يفقد الناس الحماية والأمان، ويفقدهم دفء الأسرة الذي هو جوهر الاحتفال بالعيد. في مدينة الفاشر، تتحدث عائلة أحمد، التي فقدت منزلها، عن عيد بلا فرح، حيث تقول الأم: "العيد بالنسبة لنا هذا العام ليس سوى دليل على أننا ما زلنا على قيد الحياة، وأن الأمل لم يمت بعد".
هذه الصور المؤلمة ليست مجرد أخبار عابرة، بل هي شهادة على فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين وفرض احترام حقوق الإنسان في مناطق النزاعات، بينما تُنفق الدول مئات المليارات على التسلح، يعاني ملايين الأطفال من الجوع ويفقدون أبسط مظاهر الحياة والكرامة، في ظل هذه الحقائق، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً هو: كم عيداً آخر يجب أن نرى فيه هذه المآسي المتكررة قبل أن يستيقظ الضمير العالمي ويتحرك لوضع حد لهذه الجرائم الإنسانية؟
فرحة مغيّبة في العالم العربي
في وقت يُفترض أن تكون فيه الأعياد محطات للفرح واللقاء، تتحول في كثير من بلدان العالم العربي إلى لحظات مثقلة بالحزن والغياب، لا سيما لمن يعيشون خلف القضبان أو ينتظرون أحبّاء فُقدوا قسرًا.
وعبر إبراهيم شيخو، مدير منظمة حقوق الإنسان في عفرين– سوريا، لـ"جسور بوست" عن قلقه العميق إزاء الأوضاع الإنسانية المتدهورة للمعتقلين، مؤكدًا أن "الفرحة بالعيد تظل ناقصة ما دام هناك أبناء وبنات، آباء وأمهات، خلف الأسوار أو غيّبهم المصير المجهول"، وأضاف: "كثير من المعتقلين يدخلون العيد بأمل لن يتحقق، في ظل انقطاع التواصل مع عائلاتهم، وغياب أي أفق للحرية أو حتى لمحاكمة عادلة".
شيخو وصف ملف المختفين قسرًا في سوريا والعالم العربي بـ"الجرح المفتوح"، مشيرًا إلى أن أكثر من 150 ألف شخص يُعتبرون في عداد المفقودين، وفق تقديرات الأمم المتحدة. وأوضح أن الأنظمة البوليسية لا تتعامل مع المواطن كإنسان، بل كتهديد دائم، وهو ما يُبرر –في نظرها– استمرار الاعتقال دون تهم أو محاكمات.
ودعا شيخو إلى اعتماد إجراءات استثنائية خلال الأعياد، تشمل الإفراج عن المعتقلين الذين قضوا نصف مدة الحكم، أو أولئك الذين لا يزالون موقوفين دون محاكمة، إضافة إلى تسهيل الزيارات وتحسين ظروف الاحتجاز، "زيارة واحدة، حتى لو كانت قصيرة ومشحونة بالخوف، قد تُحدث فرقًا في حياة معتقل انتظر سنوات"، يقول شيخو، مشددًا على أن الحقوق الأساسية للسجناء ليست ترفًا، بل التزام قانوني وإنساني.
غزة: عيد ناقص بغياب الأسرى
في غزة، لا تقلّ المأساة عمقًا. محمد عبد الناصر، أحد سكان القطاع، يقول لـ"جسور بوست" إن غياب الأسرى الفلسطينيين عن ذويهم في العيد يترك جرحًا نفسيًا لا يُشفى، "العيد هنا لا يكتمل. الأب خلف القضبان، الأخ غائب، والفرحة منقوصة في كل بيت تقريبًا".
يشير عبد الناصر إلى أن سلطات إسرائيل تتعمد حرمان الأسرى من اللحظات الرمزية للعيد، حيث تُمنع الزيارات أو تؤجل إلى ما بعد المناسبة، وكأن الهدف محو الأمل، "في الوقت الذي تجتمع فيه العائلات على موائد العيد، يبقى الأسرى في عزلة قاتلة، محرومين حتى من صوت أحبائهم".
ورغم الجهود التي تبذلها منظمات حقوق الإنسان، يظل الواقع تحت قبضة الانتهاكات المستمرة، فالقيود مشددة، والحالة الإنسانية داخل السجون تزداد تدهورًا، "لا نطلب معجزات"، يقول عبد الناصر "بل فقط أن يعيش أسرانا كرامتهم، وأن يعودوا لأحضان عائلاتهم، فكل عيد يمر دونهم هو جرح جديد".
السودان.. الأعياد بين الحرب والحصار
أما في السودان، فالصورة أكثر تعقيدًا، الحرب والانهيار الاقتصادي تسببا في شلل تام لمظاهر الحياة، بما فيها الاحتفالات بالأعياد، ويوضح الدكتور وائل فهمي، عضو اللجنة الاقتصادية بقوى الحرية والتغيير، لـ"جسور بوست" أن الخرطوم –التي كانت تضم أكثر من 11 مليون نسمة– شهدت نزوحًا هائلًا شمل أكثر من سبعة ملايين شخص، بينما لجأ ما يزيد عن مليوني سوداني إلى خارج البلاد.
يصف فهمي الوضع بأنه "انهيار اجتماعي واقتصادي غير مسبوق"، مشيرًا إلى أن الأعياد لم تعد سوى أطياف من الماضي، "في مناطق النزوح، لم تعد هناك قدرة حتى على تأمين الغذاء أو الدواء، فكيف نحتفل؟"، ويضيف أن الأعباء اليومية باتت لا تُحتمل، وغالبًا ما يُلقى بثقلها على المغتربين الذين يواجهون بدورهم صعوبات اقتصادية كبيرة.
رغم ذلك، لا يزال السودانيون يتمسكون بقيم التكافل، إلا أن هذه الروح مهددة بالانهيار بسبب التفكك المجتمعي وانعدام الثقة. "الحرب والعقوبات الدولية لا تطال إلا المواطن العادي"، يقول فهمي، محذرًا من أن استمرار هذا الوضع دون تدخل سيؤدي إلى مزيد من التدهور، ليس اقتصاديًا فقط، بل اجتماعيًا وثقافيًا أيضًا.
الفرح.. حق مغيّب
بدوره، يرى المحلل السياسي سيبويه يوسف أن الحصار، سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا، لا يصيب البنية التحتية فقط، بل يُصيب روح المجتمع، "الأعياد ليست مجرد طقوس دينية، بل لحظات إنسانية تعيد للناس انتماءهم واستقرارهم النفسي"، يقول يوسف، مضيفًا أن منع الناس من أداء شعائر العيد – كما يحدث أحيانًا بحجة حماية الثروة الحيوانية أو لأسباب اقتصادية – هو انتهاك مباشر لحقوق الإنسان.
ويؤكد أن الأمل والفرح لا يقلّان أهمية عن الأمن والغذاء، فالحرب ضد الإنسان لا تكون فقط بالقصف، بل أيضًا بحرمانه من الإحساس بأنه حيّ ويستحق الحياة، ويختم قائلاً: "الشعوب المنهكة لا تحتاج لمعجزات، بل إلى أن يُعاد لها الحد الأدنى من إنسانيتها، وإذا عجزت الأنظمة عن وقف الحرب، فعليها على الأقل أن تحمي ما تبقى من روح شعوبها".