من أقاصي الشمال نحو كسر الحصار .. نشطاء العالم يُبحرون نحو غزة متحدّين إسرائيل

من أقاصي الشمال نحو كسر الحصار .. نشطاء العالم يُبحرون نحو غزة متحدّين إسرائيل
نشطاء يُبحرون نحو غزة

بينما يستمر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من 17 عامًا، تُبحر مبادرات شعبية مثل "أسطول الحرية" كمحاولة يائسة لإيصال صوت المحاصرين إلى العالم، ولتعرية الصمت الدولي الذي طالما لازم هذه المأساة الإنسانية الممتدة.

 لم يعد "أسطول الحرية" مجرد قافلة بحرية إنسانية، بل بات رمزًا أخلاقيًا لمقاومة القمع، ورسالة من المجتمع المدني العالمي في وجه الانتهاكات الإسرائيلية والعجز الدولي.

من أقاصي الشمال الأوروبي، حيث تسكن الغابات الباردة ويعلو الصمت على الضجيج، تنطلق الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ، أيقونة النضال المناخي، في مغامرة من نوع آخر، مغامرة لا تتعلق بالمناخ، بل بحرارة القلوب التي ترفض أن تتجمد أمام مشاهد الإبادة والدمار في غزة.

تختار غريتا أن تكون جزءًا من قافلة الضمير، متحدية رياح السياسات المتعنتة، ومواثيق لا تُطبق، ومتوجهة إلى غزة التي تحولت الحياة فيها إلى حلم هش، والموت إلى مشهد يومي لا يثير ضجيجًا دوليًا يُذكر.

أعلنت ثونبرغ، برفقة شبكة من النشطاء من مختلف الجنسيات، أنها ستنطلق في الثاني من يونيو على متن سفينة إنسانية نحو قطاع غزة، في محاولة رمزية لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض منذ أكتوبر 2023، ولفت الأنظار إلى الحرب المستمرة التي يرزح تحتها أكثر من مليوني إنسان. 

وتأتي هذه الخطوة ضمن حملة احتجاجية عالمية، تحمل رسالة واضحة: الصمت لم يعد خيارًا، والحياد في وجه القتل خيانة للضمير.

في هذه الرحلة التي تتخذ من البحار ممرًا ومن الأخلاق وقودًا، تصرّ ريما حسن، النائبة الفلسطينية في البرلمان الأوروبي، على أن تكون ضمن هذا المسعى رغم ما يحفّه من مخاطر. ريما، التي سبق أن مُنعت من دخول الأراضي الفلسطينية، تحمل معها وجع وطن ممزق، وتتمسك بدورها كصوت لا ينكسر ولا يخفت، مهما علت أصوات الحصار. 

هي لا تبحر فقط نحو غزة، بل تبحر في عمق المأساة، محاولة إعادة تعريف ما يعنيه أن تكون إنسانًا في زمن تتكسر فيه القيم على صخرة السياسة.

وتؤكد حسن، في تصريحات نقلتها وكالة "فرانس برس"، أن هدف هذه الرحلة يتجاوز إيصال المساعدات أو كسر الحصار البحري فحسب، بل يتمثل في فضح "الإبادة الجماعية المستمرة" بحق سكان غزة، وتسليط الضوء على إفلات إسرائيل من العقاب الدولي، وهو الإفلات الذي تراه دليلاً صارخًا على انهيار النظام القانوني العالمي أمام هيمنة القوى الكبرى.

تقف هذه السفينة، برمزيتها، مرآة حادة أمام العواصم الغربية التي تكتفي بإصدار بيانات متوازنة لواقع مائلٍ حتى النخاع.

هذه المحاولة ليست جديدة من نوعها؛ حيث إن "أسطول الحرية" ليس اسمًا حديثًا، بل ذاكرة مقاومة مدنية عالمية انطلقت منذ 2010، حين قُتل عشرة نشطاء على يد القوات الإسرائيلية خلال اعتراض السفينة "مافي مرمرة"... منذ ذلك الحين، أصبحت كل رحلة من هذا النوع أشبه بصرخة أخلاقية في وجه مجتمع دولي صامت أو متواطئ.

قانونية الحصار المفروض على غزة

وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن الحصار الشامل المفروض على غزة منذ عام 2007، والذي تم تشديده بشكل كبير بعد أكتوبر 2023، يرقى إلى مستوى "العقاب الجماعي"، وهو مصطلح يستخدمه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان. هذا النوع من الحصار يخالف المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على أن "العقوبات الجماعية محظورة تمامًا".

تؤكد هيومن رايتس ووتش في تقريرها الصادر في ديسمبر 2023 أن “الحصار المفروض على قطاع غزة يعوق بشكل ممنهج تدفق الغذاء والماء والدواء، ويشكل خنقًا متعمدًا للمدنيين”، وتشير المنظمة إلى أن إسرائيل، كقوة احتلال، ملزمة قانونًا بضمان رفاه السكان المدنيين. ومع ذلك، لا يزال المجتمع الدولي عاجزًا عن اتخاذ إجراءات ملموسة لفرض الالتزام بهذه القوانين، فيما يبدو أن ميزان العدالة الدولي قد فقد بوصلته الأخلاقية.

هذه المبادرات، وإن بدت للبعض كقطرات ماء على صخر مصمت، فإنها تملك قدرة لا يستهان بها على تشكيل وعي جماهيري عالمي، وعلى إعادة ترتيب سردية الصراع بما يتجاوز الرواية الرسمية السائدة.

يقول الدكتور آدم روسو، الباحث في العلاقات الدولية بجامعة جنيف: "التحركات المدنية الدولية لا تملك قوة الردع العسكري، لكنها تصنع ضغطًا أخلاقيًا يصعب على الحكومات تجاهله، خاصة عندما تترافق مع تغطية إعلامية دولية وقيادات رمزية مثل غريتا ثونبرغ، التي تحمل في طلتها مصداقية النضال البيئي والإنساني العابر للحدود".

لقد أظهرت تجارب سابقة أن المبادرات المدنية العابرة للحدود، رغم محدودية أدواتها، تمتلك قدرة غير مباشرة على التأثير في صنع القرار السياسي، ففي أعقاب "أسطول الحرية" الأول عام 2010، اضطرت إسرائيل، تحت ضغط عالمي، إلى تخفيف بعض القيود المفروضة على دخول السلع إلى غزة، بحسب تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في سبتمبر من نفس العام.

واليوم، مع تصاعد القصف وتجدد الحصار منذ أكتوبر 2023، باتت هذه المبادرات ضرورة أخلاقية لا يمكن الاكتفاء بتصفيق رمزي لها، بل يجب دعمها وحمايتها كجزء من مسؤولية جماعية تفرضها القوانين الدولية.

فوفق إعلان حماية المدافعين عن حقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1998، تلتزم الدول الأعضاء بضمان سلامة النشطاء المشاركين في أنشطة سلمية تهدف للدفاع عن حقوق الإنسان، وبتوفير الحماية لهم ضد التهديدات أو الاعتداءات، ومع ذلك، فقد تعرضت سفينة "أسطول الحرية" مؤخراً لعمل تخريبي يُعتقد أنه نُفذ بواسطة طائرة إسرائيلية مسيّرة، في غياب تام لأي إدانة رسمية من العواصم الغربية، ما يطرح تساؤلات حرجة حول مدى الالتزام الدولي الفعلي بهذه الالتزامات.

هذا الصمت، الذي بات عادة دبلوماسية غربية، يُفسَّر من قبل كثير من النشطاء على أنه "حصانة سياسية غير معلنة" تُمنح لإسرائيل، تُبرَّر تحت مظلة "الحق في الدفاع عن النفس"، حتى عندما يكون هذا الدفاع موجّهًا نحو مستشفيات، ومدارس، وقوافل إغاثية. ففي إبريل 2025، قُتل سبعة من متطوعي منظمة وورلد سنترال كيتشن في غارة إسرائيلية على قافلة إنسانية، في جريمة أثارت موجة استنكار شعبي، لكنها لم تؤدِ إلى أي عقوبة دبلوماسية أو إجراء قانوني بحق الفاعل.

ومع أن مساعدات غذائية وطبية بدأت تتدفق نسبيًا إلى غزة، إلا أن الطريق إلى تلبية الحاجات الفعلية لا يزال مسدودًا، بفعل التعطيل المتكرر عند المعابر والهجمات على العاملين في الإغاثة.

تشير بيانات برنامج الغذاء العالمي (WFP) الصادرة في مايو 2025، إلى أن أكثر من 1.1 مليون شخص في قطاع غزة يعانون من خطر المجاعة، من بينهم نحو 500 ألف طفل دون سن الخامسة، وأن 85% من سكان القطاع يواجهون مستويات حرجة من انعدام الأمن الغذائي، وهي أرقام تنذر بكارثة إنسانية كبرى، بينما يقف العالم بين متفرج ومبرر.

وسط هذا الجحيم، يأتي "أسطول الحرية" كوميض يوقظ الضمير الإنساني الغافي، ليس عبر عدد الحاويات التي يحملها، بل من خلال الصدى الأخلاقي الذي يُحدثه في وجدان العالم، فكل وجه على متن السفينة، وكل علم يُرفع على ساريتها، هو بمثابة تذكير صارخ بأن غزة ليست مجرد إحصائية في تقرير، بل كيان حي يعاني، ويقاوم، وينتظر إنصافًا تأخر طويلًا.

في عصر الخوارزميات والمنصات الرقمية التي تراقب وتحدد ما يستحق أن يُرى وما ينبغي أن يُهمَّش، تشكل هذه المبادرات تحديًا حقيقيًا لاحتكار الرواية. فقد أظهرت موجات التضامن الرقمي مع القضية الفلسطينية، كما حدث في مايو 2021، أن الرأي العام العالمي يستطيع –إذا ما أُثير بذكاء– أن يُجبر كبرى المؤسسات الإعلامية على كسر صمتها، وأن يدفع العواصم الغربية إلى مراجعة لغتها، ولو مؤقتًا.

واليوم، تحمل السفينة معها أكثر من مؤن غذائية أو أدوية؛ إنها محمّلة برمزية عابرة للحدود، برسالة مقاومة سلمية تضع العالم أمام اختبار جديد.

تقول النائبة ريما حسن في بيانها الأخير: "هذه السفينة ليست مجرد وسيلة نقل، بل رسالة في زجاجة، أُلقيت في بحر السياسة العاتية، تأمل أن تصل إلى شاطئ العدالة".

إنها تذكير صريح أن العدالة التي تُمارَس بانتقائية تتحول إلى أداة ظلم جديدة، وأن العالم الذي يصمت على القصف اليوم، سيكتب شهادة عجزه في دفاتر التاريخ غدًا.

صرخة في وجه الحصار وصمت العالم

يرى الدكتور سيد مكاوي، الخبير في الشؤون الآسيوية، أن "أسطول الحرية" ليس مجرد عمل رمزي، بل هو صرخة وجع أخلاقية في وجه عالم خرس عن رؤية التجويع الجماعي والمجازر اليومية في غزة، وفي تصريح لـ"جسور بوست"، وصف مكاوي الحصار بأنه "جريمة ضد الإنسانية مكتملة الأركان"، تمارسها إسرائيل تحت مظلة الدعم الأمريكي وصمت النظام الدولي، وأضاف: "نحن نشهد انحدارًا أخلاقيًا يعيدنا إلى عصور الظلام".

وأشار مكاوي إلى أن الحصار، المستمر منذ عام 2007، وتحديدًا بعد أكتوبر 2023، دخل مرحلة غير مسبوقة من التقييد الكامل لمداخل الحياة الأساسية من غذاء ودواء وكهرباء، مما يُصنف كـ"عقاب جماعي ممنهج" بحق المدنيين، وهو ما تحظره اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ازدواجية المعايير الدولية

وفي مقارنة لافتة، قال مكاوي إن الغرب الذي يموّل مقاومة أوكرانيا ضد الاحتلال الروسي، يصنف مقاومة الفلسطينيين "إرهابًا"، ويحمي إسرائيل من أي إدانة دولية باستخدام الفيتو، وأضاف: "هذا التناقض يهدم مبدأ العدالة الدولية من أساسه، ويحوّل القانون الدولي إلى أداة انتقائية".

ورأى مكاوي أن الزخم الشعبي العالمي، المتمثل في قوافل الإغاثة مثل "أسطول الحرية"، يكشف زيف الروايات الإسرائيلية ويعرّي التواطؤ الغربي، رغم ما يتعرض له النشطاء من استهداف مباشر كما حدث في "مرمرة" 2010 و"سفينة الضمير" 2025.

القانون الدولي يجرّم الحصار

من جهته، قال المحلل السياسي الدولي حسن محمد حاج، رئيس تحرير "الصومال الآن"، إن الحصار المفروض على غزة يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، لا سيما المواد 55 و59 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تُلزم الاحتلال بتأمين احتياجات السكان الخاضعين له.

وأضاف حاج في تصريح لـ"جسور بوست" أن التشديد المتصاعد على القطاع، وحرمانه من الإغاثة، يرقى إلى استخدام التجويع كسلاح حرب، وهو أمر مجرّم في البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف وفي نظام روما الأساسي، وأوضح أن تقارير أممية عديدة اعتبرت هذا الحصار "غير قانوني"، إلا أن التخاذل الدولي في محاسبة إسرائيل يعكس الخلل العميق في توازنات السياسة العالمية.

أدوات ضغط رمزية

وأشار حاج إلى أن المبادرات المدنية مثل "أسطول الحرية" تُعد أدوات ضغط رمزية ناجحة، رغم القيود والمخاطر، فهي تسلّط الضوء على الكارثة الإنسانية في غزة، وتُحدث اختراقًا في جدار التعتيم السياسي والإعلامي، ولفت إلى أن الهجوم الإسرائيلي الأخير على الأسطول في المياه الدولية يُعدّ خرقًا واضحًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ويستوجب تحقيقًا دوليًا عاجلاً.

وطالب حاج المجتمع الدولي بتحمّل مسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه النشطاء الدوليين، مؤكدًا أن غياب المساءلة عن جرائم موثقة، كقتل النشطاء الأتراك في مرمرة، يشجع على مزيد من الانتهاكات.

رغم كل العقبات، يرى كل من مكاوي وحاج أن أسطول الحرية، وإن لم يتمكن من كسر الحصار فعليًا، فإنه نجح في خلخلة السردية الإسرائيلية الرسمية، وإعادة الملف الفلسطيني إلى واجهة النقاش الدولي، وباتت هذه المبادرات تمثل كوابح معنوية أمام تمادي إسرائيل، وتُذكّر بأن الحق، ولو خُنق سياسيًا، يظل حيًا في ضمائر الأحرار.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية