المساعدات كمصيدة.. عندما يتحول الغذاء إلى فخ أمني ضمن استراتيجية القتل الجماعي في غزة

المساعدات كمصيدة.. عندما يتحول الغذاء إلى فخ أمني ضمن استراتيجية القتل الجماعي في غزة
أزمة الجوع في غزة

في ظل أوضاع إنسانية كارثية، انقلبت نقاط توزيع المساعدات في غزة، لا سيّما في رفح وناتزاريم، إلى مواقع قتل وليست إنقاذاً، بحسب تقارير وتقويمات حقوقية متعددة. أشارت بيانات وزارة الصحة في غزة إلى استشهاد 163 فرداً وجرح 1,495 آخرين منذ نهاية مايو عند محاولتهم الحصول على المساعدات، كذلك وثّقت مديرية الرعاية الطبية إصابة 207 خلال حادثة واحدة بتاريخ 10 يونيو الجاري.

من جهته، وثّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عملية إطلاق مسلحين محليين في زيّ "جهاز مكافحة الإرهاب الفلسطيني" النار على المدنيين في إحدى تلك النقاط، ما أسفر عن استشهاد 14 شخصاً على الأقل من دون اشتباكات مسلحة، وفق إفادات الحاضرين، وليس غريباً أن تكشف صحيفة "معاريف" الإسرائيلية الشعبية قوة عسكرية اسمها "عصابة أبو شباب"، بدعم مباشر من جهاز الأمن العام (الشاباك)، تتكون من مجرمين معروفين ومسجلين، تم تجهيرهم من الناحية المادية والتسليحية للتصرف في الزوايا التي لا تريد الدولة التدخل فيها مباشرة، وتحويل التوزيع الإنساني إلى "محرقة أمنية".

ولا تكتفي الصورة بذلك؛ فقد وردت تقارير من المرصد عن وجود مرتزقة أجانب يعملون داخل غزة بشكل مباشر في حماية نقاط التوزيع، ينتمون لشركة أمن منصّبة أمريكيًا، أطلق أحدهم النار على مدني فلسطيني وأرداه قتلاً. وبناء على القانون الدولي -وتحديدًا اتفاقية جنيف المتعلقة بالمرتزقة- يعتبر هؤلاء "مرتزقة" بحكم اشتراكهم في أعمال عدائية خارج بلادهم، وتحت إمرة قوة أجنبية، ما يجعلهم قرارًا في جرائم تُطوّق بالمساءلة الجنائية أمام المحاكم الإقليمية أو الدولية، والأمر هنا لا يقتصر على أفعال عنف مؤثرة على المستويات الإنسانية فحسب، بل يرتبط بمنهج جرم ومنظم يقلب طرق الحصول على الطعام والدواء من حقوق إنسانية إلى مصائد مميتة.

طبيعة الخطورة يمكن فهمها بشكل أعمق إن علمنا أن التصعيد شمل إشراك أجهزة الدولة الإسرائيلية في التخطيط وتجنيد العصابات المحلية وضرب القانون الدولي بزعامة وزارة الصحة داخل "دولة تحترم حقوق الإنسان". فالروايات تشير إلى أجهزة استخبارية رسمية تقف خلف تلك الخطوات، في هدف معلن لإضعاف النسيج المجتمعي، وتشويه صورة المناطق السكنية عبر تصويرها كساحات افتعلت من قبل "عناصر خارجة" وليست نتيجة احتقان شعبي بفعل الحصار والتجويع، وهذا الاستهداف المنظم للمدنيين في مناطق توفر فيها السلطات نقاط مساعدات إنسانية يهدد مفهوم الحماية.

ووفق أحدث إحصاءات وزارة الصحة في غزة حتى 10 يونيو 2025، استُشهد أكثر من 55,000 فلسطيني، بينهم حوالي 12,000 طفلاً و10,000 امرأة، منهم من تم استقطابهم إلى مراكز التبرعات الإنسانية، وهذه النسب تمثل أكثر من ثلثي عدد الشهداء المدنيين، وهو ما يسجل نسبة تطهير ممنهج في مضمونها الاجتماعي ضد مدنيين معرّضين للخطر ليس بفعل القصف فحسب، بل بفعل الهجوم على أماكن جلب الاحتياجات الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، تُقدر "أونيسف" أن أكثر من نصف مليون طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد.

تضاف إلى هذه الأرقام مأساة النزوح؛ فقد فرّ أكثر من 640,000 فلسطيني (ما نسبته 82% من سكان القطاع) من منازلهم قسرًا منذ مارس، يواجهون ظروف إيواء مؤقتة بدون رعاية كافية أو انعاش صحي وتعليمي، وتحت تهديد دائم بفقدان الأمن الجسدي والطبي عقب عمليات القتل المنظمة عند نقاط التوزيع.

العودة لتقييم الواقع المباشر يدفع إلى فهم أن الاحتلال المتمترس خلف شرعية "تحرير الطعام" يُعادل خانة من الدمار الاجتماعي. بمعنى عملي، فقد حولت سلطاته الطريقة الإنسانية لتوزيع الغذاء والدواء إلى بطاقة حرب، لا على يقين الدعم المدني فحسب، بل على ذرة الأمل الباقية داخل المجتمع، لإعلامي وميداني معًا. وبحسب مسؤولي الأمم المتحدة فإن "نقاط التوزيع باتت محطات موت تدفع المدنيين نحو الموت دون حراك".

هذه الممارسات توضح بشكل كامل التذبذب الخطير بين التصريحات الإنسانية الرسمية والتطبيقات الأمنية التعسفية. ما يجري يظهر أن "الكيان الإسرائيلي" بات يستخدم أدوات حمائية "نصف رسمية" بمشاركة مرتزقة وتخطيط من أجهزة استخبارية، قادرين، وإن أُريد لهم أن يبدو الأمر شرعيًا، على تحويل كل زاوية ماء أو خبز في غزة إلى فخ للقوات المشرفة عليه، وضد السكان المعوزين أولًا.

على المستوى القانوني، يُعد ما يحدث خرقًا متعديًا لهموم حقوق الإنسان الأساسية، أولها الحق في الحياة، وثانيها حرمة الجسد، وثالثها حق التماس الغذاء والدواء، وتنص اتفاقية جنيف وكل النصوص المرتبطة بها على أن المدنيين غير مشاركين في الأعمال العدائية لا يمكن أن يتعرضوا لأي شكل من أشكال العنف، وفي مقدمتها القتل العشوائي.. ووجود مرتزقة محليين وأجانب بتوجيه من أجهزة أمنية محتلة يخالف كذلك ميثاق روما لإنشاء المحكمة الجنائية في تدوين جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، مثل القتل العمد والتعذيب، وقد بدأ عدد من المدعين العامين في إعداد التهم ضد مسؤولين إسرائيليين و”أبو شباب” نفسه.

يضاف إلى ذلك أن رسائل معاناة المدنيين في غزة اختلطت بإضرابات غذائية متكررة، إذ تم تقييد توزيع المياه والدواء، بينما وحدت الأمم المتحدة الهيئة الصحية العالمية إلى وقائع تلزم بعقوبات فورية على أي عامل تجويع. وترعت منظمة الصحة العالمية الرقمية بيانات تُشير إلى أن 70% من المرضى لا يحصلون على الماء والغذاء والدواء بصورة منتظمة، وهو ما يؤكد وجود سياسة إفقار ممنهجة كما استدعتها الإحصائيات الدولية.

في إطار الاستجابة القانونية، ليس أمام المجتمع الدولي إلا خطوات محددة تتخطى البيانات الميدانية. أولها فتح تحقيقات فورية من محاكم مثل المحكمة الجنائية الدولية، وثانيها فرض عقوبات فعالة على المتورطين، وثالثها قطع الدعم أو تقييده حتى التزام إسرائيل بالقانون.. والحديث لا يكتمل دون إبراز أن الملف يتراوح بين نزع الحصانات وهذه الملفات "الصامتة" التي لم تخرج من قائمة التعاون، وهي الخطوة الأولى في تحريك الأطر القانونية من الوضع الافتراضي إلى العملي.

من جهة أخرى، ثمة مؤسسات دولية، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وUN OCHA و"يونيسف"، التي طالبت بشكل واضح بوقف انتهاك المناطق الآمنة، والتأكيد أن الغذاء والدواء يقعان ضمن حقوق إنسانية ولا يُستخدمان كأداة ضغط. في هذه اللحظة، يعيش معاناة خارجة عن الطابع الإنساني التقليدي، أي أن معادلة "قيمتين" إنسانية تقتل اليوم في قلب مواقع "المساعدة"، وهذا ما يخلخل لب العقيدة الإغاثية في القانون الدولي.

جرائم ممنهجة في غزة 

يرى الباحث في الشؤون الآسيوية عامر تمام أن استهداف المدنيين بات سلوكًا متكررًا في الحروب، رغم وضوح النصوص القانونية التي تحظر ذلك. وأوضح أن إسرائيل تمثل حالة فريدة في العالم من حيث اتساع رقعة الانتهاكات: قتل مكثف للمدنيين، استهداف مباشر للأطفال والنساء، وتدمير شامل للبنية التحتية. وأضاف أن فرض الحصار على غزة، ومنع الغذاء والدواء، يدخل ضمن "جرائم الحرب المكتملة"، كما تنص عليه اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية.

وحذر تمام من التواطؤ بين الدول وجماعات مسلحة غير نظامية، مشيرًا إلى أن مسؤولية الدولة لا تسقط إذا ما كانت قد سلّحت أو نسّقت مع هذه الجماعات، بل تُحمّل مسؤولية مشتركة على الانتهاكات الناتجة عنهم.

نقاط الإغاثة تتحول إلى أهداف عسكرية

اللافت في تقييم تمام هو تركيزه على استهداف مراكز توزيع المساعدات، واصفًا هذا الفعل بأنه "جريمة حرب بامتياز". إذ يُستخدم الحصار كسلاح لتجويع السكان، ويُمنع تسليم الدواء والغذاء، في خرق فاضح حتى لقوانين الحروب التقليدية. وقال إن مثل هذه السياسات ستُدرّس مستقبلًا على أنها "إرهاب مقنّن باسم الدفاع"، داعيًا إلى مساءلة دولية شاملة لا تستثني أحدًا.

خرق مبادئ القانون الدولي

في السياق ذاته، أكدت الناشطة الحقوقية أسماء رمزي أن القانون الدولي يفرض قيودًا صارمة على سلوك الأطراف المتنازعة، أبرزها مبدأ التمييز بين المدني والمقاتل، ومبدأ التناسب في استخدام القوة. ولفتت إلى أن خرق هذه المبادئ يرقى إلى "انتهاكات جسيمة لا تُبرر حتى تحت الذرائع الأمنية"، خاصة عندما يُستخدم العنف كأداة للترهيب أو العقاب الجماعي.

وأشارت رمزي إلى أن منع وصول المساعدات الإنسانية أو قصف مراكز توزيعها لا يُعد خرقًا فحسب، بل يؤدي إلى تفاقم الجوع، انهيار البنية الاجتماعية، ونزوح جماعي يهدد الاستقرار الإقليمي.

العدالة الدولية: أدوات موجودة لكنها مُقيّدة

وفي ما يتعلق بالمحاسبة، أكدت رمزي وجود أدوات فاعلة مثل المحكمة الجنائية الدولية، التي باشرت بالفعل إجراءات ضد مسؤولين إسرائيليين، بينهم رئيس الوزراء السابق، إلا أن فاعلية هذه الآليات كثيرًا ما تُجهض بفعل تدخلات سياسية، خاصة من قِبل قوى كبرى مثل الولايات المتحدة.

وأضافت أن مبدأ "الولاية القضائية العالمية" يشكل مخرجًا قانونيًا بديلًا، حيث تتيح بعض الدول محاكمة مجرمي الحرب بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان ارتكاب الجريمة، مع إمكانية فرض عقوبات مالية وقانونية على الأفراد والكيانات المتورطة.

يذكر أن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكولاهما الإضافيَين لعام 1977، تشكل العمود الفقري للقانون الإنساني الدولي، وتنص صراحة على حماية المدنيين وتقييد استخدام القوة. ورغم هذا الإطار، فإن الالتزام بالتنفيذ لا يزال رهينًا للإرادة السياسية والتوازنات الدولية، ما يطرح علامات استفهام حول فاعلية النظام القانوني الدولي في ردع الجناة وضمان العدالة للضحايا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية