مصائد الموت.. غزة بين التجويع والاستهداف تحت مظلة الغطاء الإنساني

بحماية أمريكية

مصائد الموت.. غزة بين التجويع والاستهداف تحت مظلة الغطاء الإنساني
فلسطينيون أمام مركز توزيع المساعدات في غزة

شهد قطاع غزة هذا الأسبوع أحداثًا دامية اختلطت فيها المساعدات الغذائية بدماء الجوعى، وسط تزايد الانتقادات الحقوقية والعربية تجاه ما يُوصف بجرائم حرب وإبادة جماعية تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين خلال محاولتهم الحصول على الغذاء.

وأكد خبراء في القانون الدولي وحقوق الإنسان في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن ما يتعرض له الفلسطينيون من تجويع وقتل أثناء تسلم المساعدات يتجاوز كونه عقابًا جماعيًا، بل يرقى إلى جرائم حرب وإبادة جماعية، محذرين من أن الصمت الغربي لا يعفي الدول الأوروبية من التواطؤ، وكان الأجدر بها فرض عقوبات حقيقية على إسرائيل لإجبارها على التراجع عن هذه السياسات المخالفة لكل المواثيق الدولية.

وتصاعدت وتيرة الضحايا هذا الأسبوع جراء استهداف مراكز توزيع المساعدات، فقد استشهد نحو 50 فلسطينيًا، وأُصيب العشرات الثلاثاء في قصف استهدف تجمعًا لمدنيين ينتظرون المساعدات بخان يونس، فيما وصفته وزارة الصحة بـ"مجزرة بحق الجائعين".

وفي اليوم السابق، لقي 68 شخصًا مصرعهم، بينهم 38 من طالبي المساعدات، وأصيب أكثر من 182 آخرين خلال 24 ساعة من القصف الإسرائيلي، وبلغ إجمالي عدد الشهداء منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر 2023 نحو 55.432 شهيدًا، بالإضافة إلى 128.882 مصابًا.

وفي 14 يونيو الجاري، أفادت سلطات غزة أن غارات إسرائيلية استهدفت مواقع لتوزيع المساعدات، ما أدى إلى استشهاد 45 فلسطينيًا على الأقل، معظمهم قرب مركز تديره مؤسسة "غزة الإنسانية" المدعومة من الولايات المتحدة.

كما أعلنت وزارة الصحة قبل ذلك بأيام، استشهاد 31 فلسطينيًا، وإصابة نحو 200 آخرين برصاص الجيش الإسرائيلي وطائرات بدون طيار، خلال تجمعهم للحصول على مساعدات غذائية في منطقة نتساريم.

وفي 10 يونيو، أكدت المصادر الطبية استشهاد 17 فلسطينيًا وإصابة العشرات خلال اقترابهم من أحد مواقع التوزيع التابعة للمؤسسة نفسها، ما يرفع عدد من سقطوا في ما يُعرف بـ"مجازر المساعدات" إلى 338 شهيدًا وأكثر من 2831 جريحًا.

مصائد الموت

في بيان رسمي، وصف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة مراكز التوزيع التي تديرها مؤسسة "غزة الإنسانية" بأنها "مصائد موت"، تستدرج الجائعين نحو نقاط مكشوفة للاستهداف العسكري المباشر، مؤكدًا أن الاعتداءات تركزت في رفح ووادي غزة.

ومنذ بدء عمل المؤسسة في 27 مايو، سقط 300 شهيد و2649 مصابًا نتيجة استهداف المتجمعين حول ما يُعرف بـ"الآلية الأمريكية-الإسرائيلية" لتوزيع المساعدات.

واتهم المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، مؤسسة "غزة الإنسانية" بالمسؤولية المباشرة عن الجرائم المرتكبة، مؤكدًا أن استمرارها في تشغيل مراكز التوزيع رغم توثيق مقتل المئات يعد مشاركة صريحة في جرائم حرب.

وأوضح أن المؤسسة تنسق مع الجيش الإسرائيلي لتوجيه المدنيين نحو مناطق مكشوفة، تتحول لاحقًا إلى ميادين قنص وقتل ممنهج، داعيًا إلى فتح تحقيق دولي مستقل لمحاسبة القائمين على هذه المراكز.

وانطلقت خطة توزيع المساعدات من خلال "مؤسسة غزة الإنسانية" بدعم أمريكي وإسرائيلي، دون إشراف من الأمم المتحدة أو وكالاتها الإغاثية.

وفي ظل الحصار المستمر منذ 2 مارس، لم تسمح إسرائيل سوى بدخول عدد محدود من الشاحنات عبر معبر كرم أبو سالم، رغم حاجة غزة إلى 500 شاحنة يوميًا كحد أدنى.

فخ تحت ستار إنساني

بدوره قال مايكل فخري، مقرر الأمم المتحدة الخاص بالحق في الغذاء، إن إسرائيل تستخدم آلية توزيع المساعدات كوسيلة لتجويع الفلسطينيين، واصفًا ما يجري بأنه حملة منظمة لتجويع المدنيين بمشاركة الحكومة الأمريكية.

وأكد فخري أن الهجمات الإسرائيلية على نقاط التوزيع تمثل خرقًا صريحًا للقانون الدولي، مشيرًا إلى تحذيرات أممية مبكرة بأن هذه الآلية لا تعدو كونها غطاءً لعمليات استهداف مدنيين.

وشدد على ضرورة السماح الكامل بدخول القوافل الإنسانية، ودعم عمل الوكالات الأممية المختصة مثل برنامج الغذاء العالمي و"أونروا" و"يونيسيف"، لضمان توزيع الغذاء بشكل آمن وإنساني.

فيما حذّر أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، من انهيار شامل ووشيك في قطاع غزة، مع اقتراب توقف مظاهر الحياة بسبب انقطاع الخدمات ونفاد المساعدات، مؤكداً أن المياه على وشك النفاد، في حين أن الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات ومحطات الكهرباء بات شحيحًا للغاية.

وأوضح الشوا في تصريحات متلفزة أن أغلب سكان غزة أصبحوا من النازحين، محصورين في مساحة لا تتجاوز 18% من القطاع، ويعيشون في ظروف إنسانية مأساوية، كما أن مراكز توزيع المساعدات تحولت إلى "كمائن موت"، تدار من قبل شركة أمريكية تخدم جيش الاحتلال، ويُجبر المواطنون على قطع مسافات طويلة عبر طرق خطرة للوصول إليها، قبل أن يتعرضوا لإطلاق النار دون وجود أي خدمات إسعاف.

وشدد على أن المساعدات ممزوجة بالدم، وقليلة جدًا، ولا تكفي لتلبية احتياجات السكان، مؤكدًا أن آليات التوزيع تخضع بالكامل لسيطرة الاحتلال ضمن سياسة تجويع ممنهجة تمثل جريمة ضد الإنسانية.

التغطية على الجرائم الإسرائيلية

وفي مقال نشرته مجلة ناشونال إنترست، عدّ ألكسندر لانغلوا، محلل السياسة الخارجية والزميل في مؤسسة أولويات الدفاع الأمريكية، أن "مؤسسة غزة الإنسانية" تمثل محاولة أمريكية للتغطية على الجرائم الإسرائيلية.

وأوضح أن هذه المؤسسة -التي تشبه ميناء بايدن العائم- تهدف إلى حماية إسرائيل من التنديد والمحاسبة الدولية، عبر تقديم صورة مضللة عن تقديم مساعدات إنسانية، فيما الحقيقة أنها تُستخدم أداةً للسيطرة الأمنية وتنفيذ سياسة التجويع.

وأشار لانغلوا إلى أن المراكز الواقعة جنوب غزة تهدف لدفع السكان قسرًا إلى مناطق محددة، ما يسهل تنفيذ عمليات تطهير عرقي وترحيل جماعي، وهي جزء من "كابوس منظم" مدعوم أمريكيًا.

وشدد على أن الولايات المتحدة سعت مرارًا إلى حماية إسرائيل من تهمة "التجويع المتعمد"، وهي جريمة حرب وفق القانون الدولي، لافتًا إلى أن مبادرات المساعدات الأمريكية تهدف بالأساس إلى تقويض الدعاوى الدولية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية.

على الصعيد العربي والدولي، أجرى وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي اتصالًا مع رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى، مؤكداً موقف بلاده الرافض لسياسة التجويع والعقاب الجماعي الإسرائيلية، التي تُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني.

القانون الدولي مغيّب

بدوره قال الدكتور أمجد شهاب، أستاذ القانون الدولي في جامعة القدس، في تصريح لـ"جسور بوست"، إن القانون الدولي مغيّب تمامًا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، مؤكدًا أن الجرائم المرتكبة في غزة منذ أكثر من 600 يوم تُعد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لا تسقط بالتقادم.

وأضاف شهاب أن الغرب يقدم الغطاء السياسي والعسكري لإسرائيل، لدرجة أن مناشدة مجرمي الحرب أصبحت سلوكًا دوليًا معتادًا، بدلًا من محاسبتهم، معتبرًا أن ما يجري أقرب إلى تواطؤ دولي منظم، مشددًا على ضرورة تجميد عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة كما حدث مع جنوب إفريقيا عام 1974.

ومن جانبه، أكد الحقوقي الدولي عبد المجيد مراري، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن إسرائيل ترتكب جريمة حرب مكتملة الأركان، وأن التجويع الممنهج واستدراج المدنيين نحو "مؤسسة غزة الإنسانية" لتصفيتهم يمثل انتهاكًا جسيمًا للمادة الثامنة من نظام روما الأساسي.

وأوضح مراري أن ما يحدث في غزة هو تجسيد لجريمة إبادة جماعية تمارس على نحو ممنهج، وسط صمت غربي مريب، مؤكدًا أن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم، ويجب ملاحقة مرتكبيها أمام القضاء الدولي.

في ظل تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، تتكشف أبعاد سياسة تجويع ممنهجة تُستخدم سلاحاً لإخضاع المدنيين، وسط تواطؤ دولي وصمت قانوني مريب، وبين محاولات التجميل عبر مؤسسات الإغاثة المدعومة أمريكيًا، تظل الحقيقة واضحة بأن ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة حرب لا تسقط بالتقادم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية