"الإيكونوميست": ديون الأسر الصينية تُغرق الملايين وتدفع البعض نحو الانتحار

"الإيكونوميست": ديون الأسر الصينية تُغرق الملايين وتدفع البعض نحو الانتحار
تفاقم أزمة الديون الشخصية في الصين - صورة تعبيرية

تفاقمت أزمة الديون الشخصية في الصين إلى مستويات غير مسبوقة، حيث دفعت الملايين إلى حافة الإفلاس، وأوصلت بعضهم إلى التفكير في الانتحار، ورغم مظاهر الرفاهية الظاهرة في المدن الكبرى، تتوارى خلف الأبراج السكنية والمراكز التجارية معاناة صامتة لطبقة وسطى تعاني من أعباء مالية خانقة.

ووفقا لتقرير نشرته مجلة "الإيكونوميست"، اليوم الثلاثاء، سجّلت ديون الأسر الصينية قفزة هائلة خلال العقدين الأخيرين، مرتفعة من أقل من 11% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006 إلى أكثر من 60% اليوم، وهي نسبة تقارب تلك المسجلة في الدول الغنية.

وشكّلت هذه الديون عبئًا متزايدًا على الاستقرار المالي والاجتماعي، خصوصًا مع تراجع سوق العقارات وارتفاع بطالة الشباب.

تصاعد مقلق في المديونية

شجّعت الحكومة الصينية في السنوات الماضية الاستهلاك المحلي والاقتراض، ما ساهم في تحفيز النمو، وساهمت السياسات الحكومية في تنشيط الإنفاق، حيث نمت مبيعات التجزئة في مايو 2024 بنسبة 6.4% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، غير أن هذا النمو جرى على أرضية هشة من التوسع غير المنضبط في الديون.

وأفادت شركة "غافيكال دراغونوميكس" أن ما بين 25 و34 مليون شخص متخلفون عن السداد، بينما يُقدّر العدد الإجمالي للمتأخرين عن السداد -بشكل جزئي أو كامل- بما يراوح بين 61 و83 مليون شخص.

يمثل هذا الرقم نحو 5 إلى 7% من إجمالي السكان الذين تفوق أعمارهم 15 عامًا، وتُعادل هذه النسبة ضعف ما كانت عليه قبل خمس سنوات، ما يكشف عن نمو حاد في شريحة المعرضين للتعثر المالي.

واجه المجتمع الصيني، الذي يربط الكفاءة المالية بالكرامة الشخصية، هذه الأزمة بصمت، وواصلت الحكومة جهودها لمواجهة تحديات مديونية المؤسسات، بينما بقيت ديون الأسر في الظل، رغم تأثيرها المباشر على الطبقة المتوسطة، التي يُعوّل عليها في دعم الاستقرار والنمو، ورغم بلوغ معدل الادخار نحو 32% من الدخل المتاح، فإن كثيرًا من الأسر استنزفت مدخراتها في شراء عقارات أو دعم مشاريع خاصة.

توسّعت منصات الإقراض الإلكتروني، مثل "أليباي" و"وي بنك"، ما سهل الحصول على قروض صغيرة ومتوسطة، ولكن بتكاليف مرتفعة ومخاطر مضاعفة، كما لجأ كثيرون إلى القروض لدعم أعمالهم الخاصة، ما زاد من هشاشة الوضع الاقتصادي للأسرة الصينية العادية.

سوق العقارات يُفاقم الأزمة

شكّل تمويل العقارات نحو 65% من القروض الأسرية خلال العام الماضي، بحسب بيانات رسمية، وقامت البنوك الحكومية بتمويل الجزء الأكبر من هذه القروض، حيث بلغ عدد الوحدات السكنية المرهونة والمعروضة للبيع في المزادات خلال عام 2024 نحو 366 ألف وحدة، بارتفاع طفيف عن العام السابق، ما يعكس استقرارًا ظاهريًا يخفي تسارعًا في التعثر عن السداد.

وخشيت السلطات من تنفيذ مصادرات قسرية قد تثير احتجاجات اجتماعية، ما دفعها إلى توجيه البنوك نحو التريث في استرداد العقارات السكنية، في المقابل، انتهجت شركات الإقراض عبر الإنترنت نهجًا أكثر صرامة تجاه المتعثرين، من خلال توظيف جهات تحصيل ديون تلجأ إلى الضغط النفسي والمضايقة المتكررة.

واضطر بعض المتعثرين إلى توثيق تجاربهم وتحويلها إلى محتوى رقمي، بحثًا عن مورد مالي جديد، من بين هؤلاء، شابة تُدعى "ليلي" من شنغهاي، فقدت عملها في شركة برمجيات، وتراكمت عليها ديون إلكترونية بقيمة 30 ألف يوان، لجأت ليلي إلى تصوير مقاطع فيديو تروي فيها معاناتها مع الديون، محاولة استقطاب متابعين وتحقيق دخل من منصات التواصل.

وتحوّل بعض هؤلاء المدينين إلى ظاهرة على الإنترنت، يتفاخرون بمقدار ديونهم، في مشهد يعكس يأسًا عامًا وافتقارًا للحلول النظامية.

واجهت "باي" من مدينة هانغتشو مصيرًا مشابهًا، كانت تدير مؤسسة تعليمية ناجحة نظمت دروسًا مكثفة لما بين 50 و60 ألف طالب، وحققت إيرادات سنوية بين 100 و200 مليون يوان، لكن حملة حكومية ضد التعليم الخصوصي أعقبت جائحة كورونا أطاحت بنشاطها، ما دفعها إلى الاقتراض من عدة جهات، بعضها غير مصرفي.

أظهرت البنوك الرسمية بعض التساهل خلال الجائحة، وتنازلت عن آلاف اليوانات من الفوائد، لكن المقرضين عبر الإنترنت لم يتساهلوا، وأرسلوا محصلين يضايقون أقاربها وأصدقاءها بشكل يومي.

واضطرت باي إلى بيع منزلها وسيارتها، قبل أن تُدرجها المحكمة على "القائمة السوداء الاجتماعية"، التي تحرم الأفراد من استخدام المواصلات السريعة أو الإقامة في الفنادق.

الانهيار والعزلة الاجتماعية

أدى الضغط المتواصل إلى دخول السيدة باي في نوبة اكتئاب حادة، وتعرضت للطلاق بعد تدهور علاقتها الأسرية، وقالت إن مضايقات محصلي الديون لوالديها كانت السبب الرئيسي لانهيارها، مؤكدة أن المجتمع الصيني لا يميل إلى مشاركة الأزمات العائلية، ما ضاعف من وطأة الانهيار النفسي.

تفتقر الصين إلى إطار قانوني واضح ينظم تحصيل الديون، ما فتح الباب أمام تجاوزات واسعة، كما تغيب ضمانات الحماية الاجتماعية للمدينين، إذ تُعاملهم المحاكم كمنتهكين للنظام الاقتصادي، بدلًا من ضحايا لفجوات في السياسات العامة.

وشهد الفضاء الإلكتروني ولادة مجموعات دعم للمدينين، من أبرزها "تحالف المدينين" على منصة "دوبان"، التي تضم أكثر من 60 ألف عضو، ووفقًا للباحث الدكتور "جياكي غو" من جامعة توركو الفنلندية، يناقش أعضاء المجموعة مصطلح "شيسي" -أي الموت الاجتماعي- الذي يُستخدم لوصف فقدان العلاقات نتيجة الضغط المتواصل من محصلي الديون.

قانون الإفلاس لا يزال مؤجلاً

سعت الحكومة في العام الماضي إلى ضبط سلوك شركات التحصيل، فحظرت التهديد والعنف اللفظي، وألزمت المقرضين بحماية البيانات الشخصية، لكن تطبيق هذه اللوائح لا يزال ضعيفًا، ما يُبقي سلوك المحصلين على حاله.

ورغم تصاعد الدعوات إلى إصدار قانون للإفلاس الشخصي يحمي المدينين من الانهيار الكامل، لم تُحرز الحكومة تقدمًا كبيرًا في هذا الاتجاه، وكانت مدينة "شنتشن" قد أطلقت أول تجربة في عام 2021، لكن بحلول سبتمبر 2024، قُبل أقل من 10% من الطلبات المقدمة.

ويُرجح أن تردد الحكومة في توسيع هذا النوع من الحماية يعود إلى هيمنة الشركات الحكومية على قطاع الإقراض، إضافة إلى مخاوف من تشجيع سلوكيات مالية متهورة.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية