توصيات مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة.. هل تجد طريقها إلى التنفيذ؟
توصيات مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة.. هل تجد طريقها إلى التنفيذ؟
لطالما مثلت آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها مجلس حقوق الإنسان، منارة أمل للملايين حول العالم الساعين للعدالة والكرامة، وتُصدر هذه الهيئات عشرات، بل مئات التوصيات سنويًا، موجهة للدول بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان، بهدف وقفها ومحاسبة مرتكبيها وضمان عدم تكرارها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل تجد هذه التوصيات طريقها للتنفيذ الفعلي على أرض الواقع، أم أنها تبقى مجرد حبر على ورق في أدراج المنظمات والجهات المعنية؟ "جسور بوست" في هذا التقرير تستعرض التحديات والمعوقات، في محاولة للفهم الشامل لهذه المعضلة العالمية.
آلة التوصيات في مواجهة الواقع السياسي
يُصدر مجلس حقوق الإنسان سنويًا آلاف التوصيات الموجَّهة للدول في إطار آليات مثل الاستعراض الدوري الشامل، بالإضافة إلى القرارات الخاصة بحالات النزاع والانتهاكات الجسيمة. ورغم أهميتها القانونية والمعنوية، تعترض سبيلها جملة من العقبات، أهمها غياب الإرادة السياسية الوطنية، والتجاذبات الجيوسياسية، وضعف آليات المتابعة الدولية.
ويؤكد تقرير صادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان (OHCHR) أن متوسط نسبة تنفيذ توصيات المجلس لا يتعدى 40%، فيما يتم تنفيذ جزء منها جزئيًا فقط، ويبقى قرابة الثلث دون تنفيذ فعلي. وهو ما يثير تساؤلات حول مدى جدوى هذه العملية في ظل غياب آلية إلزام قانوني صريحة.
بين قوة القانون وواقع السياسة
يستند مجلس حقوق الإنسان، في عمله، إلى نصوص قانونية دولية ملزمة مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقيات دولية أخرى، غير أن توصياته نفسها لا تحمل طابعًا ملزمًا قانونيًا بمعنى العقوبة، بل تمثل التزامًا سياسيًا وأخلاقيًا.
وتشير دراسة صادرة عن منظمة العفو الدولية إلى أن الدول تتعامل مع توصيات المجلس وفق حسابات سياسية داخلية وخارجية؛ فتنفذ ما لا يُؤثر على مراكز النفوذ، وتُماطل أو تتجاهل التوصيات ذات التأثير الحقيقي، خاصة تلك المتعلقة بإصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية أو إنهاء الإفلات من العقاب.
الاستعراض الدوري الشامل.. أداة مهمة لكنها ناقصة
آلية الاستعراض الدوري الشامل (UPR) تُعَدّ أحد أهم ابتكارات مجلس حقوق الإنسان، حيث تُلزَم جميع الدول الأعضاء بالمثول أمام المجلس كل أربع سنوات لمراجعة سجلّها الحقوقي، وقد ساهمت هذه الآلية في تسليط الضوء على قضايا مثل الحق في التعليم، حرية التعبير، وحماية المدافعين عن حقوق الإنسان.
لكن تقريرًا صادرًا عن هيومن رايتس ووتش يرى أن آلية الاستعراض غالبًا ما تُستخدم لأغراض تجميلية حيث تُقدّم بعض الدول خططًا مكتوبة أو تصدر قوانين رمزية دون أن تغيّر شيئًا في الممارسة الفعلية، ويؤكد التقرير أن غياب مؤشرات قياس حقيقية وفجوة المتابعة تجعل تنفيذ التوصيات مسألة تقديرية أكثر منها التزامًا فعليًا.
أمثلة حيّة.. توصيات بلا تنفيذ
في العديد من الدول التي تشهد نزاعات مسلحة وجرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان، أصدر المجلس توصيات بوقف استهداف المدنيين، وإنشاء لجان تحقيق مستقلة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، غير أن تقارير لاحقة للأمم المتحدة تُظهر أن هذه التوصيات لم تجد طريقها للتطبيق، لأسباب تتراوح بين تعنّت السلطات، وتفاقم النزاعات، وتقاطع المصالح الدولية.
على سبيل المثال، في النزاع السوري، صدر عشرات التوصيات بوقف القصف العشوائي وضمان وصول المساعدات، لكن تلك التوصيات ظلت حبرًا على ورق بسبب تعقيد الوضع العسكري والسياسي، وبالمثل، في بورما (ميانمار)، أوصى المجلس بحماية أقلية الروهينغا، لكن الجرائم استمرت رغم صدور تقارير إدانة قوية.
أصوات حقوقية: الحاجة لآليات إلزامية
تطالب العديد من المنظمات الحقوقية بإيجاد آليات تنفيذ أكثر إلزامًا، مثل فرض عقوبات محددة على الدول التي ترفض تنفيذ التوصيات، أو إحالة بعض الانتهاكات الجسيمة مباشرة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وترى الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان أن النظام الحالي يحتاج إلى تحديث ليواكب خطورة الانتهاكات المستمرة.
وبحسب تقرير أصدره مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، فإن إشراك المجتمع المدني المحلي والدولي في متابعة التنفيذ يمثل خطوة ضرورية لتعزيز الشفافية، ومحاسبة الحكومات أمام شعوبها، وليس فقط أمام المجتمع الدولي.
جهود لتعزيز الالتزام
رغم هذه الصعوبات، سجّل مجلس حقوق الإنسان بعض النجاحات، لا سيما في الدول التي تمتلك مؤسسات دستورية نشطة ومجتمعًا مدنيًا قويًا، فالتوصيات المتعلقة بإصلاح القوانين أو تعزيز حقوق النساء والأقليات كثيرًا ما تُنفَّذ في هذه السياقات بدرجات متفاوتة.
كما ساهمت التوصيات الأممية في دفع دول لتعديل قوانينها، أو الإفراج عن معتقلين سياسيين، أو الانضمام لاتفاقيات دولية جديدة، بحسب تقرير صادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان لعام 2024.
معوقات التنفيذ.. لماذا تفشل التوصيات في تحقيق أهدافها؟
تُبرّر بعض الحكومات رفضها تنفيذ توصيات المجلس بأنها تمسّ السيادة الوطنية، وهو مفهوم يظل محل جدل قانوني وأخلاقي في ظل التزاماتها الدولية، ويرى خبراء حقوق الإنسان أن السيادة لا تبرّر قمع الحريات أو ارتكاب انتهاكات جسيمة، لكن في الممارسة السياسية، غالبًا ما تستخدم الدول هذا المبدأ للتهرب من التزاماتها.
من جانب آخر، تسهم التجاذبات بين القوى الكبرى داخل المجلس نفسه أحيانًا في إضعاف فاعلية قراراته؛ إذ قد تُستخدم العضوية في المجلس كأداة لحماية الحلفاء أو تعطيل الإدانة.
عوامل رئيسية تعوق تحويل التوصيات إلى واقع ملموس منها:
غياب الإرادة السياسية: هو المعوق الأكبر فكثير من الدول التي تُنتقد سجلاتها الحقوقية تفتقر إلى الإرادة السياسية الحقيقية لتغيير ممارساتها، خاصةً إذا كانت هذه الممارسات تخدم مصالح الأنظمة الحاكمة أو الفئات المسيطرة. قد تُقدم هذه الدول تعهدات شكلية أو تُجري إصلاحات سطحية لتجنب الإدانة الدولية، دون تغيير جوهري.
السيادة والتدخل في الشؤون الداخلية: تتذرع بعض الدول بمبدأ السيادة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية لرفض التوصيات، خاصة تلك التي تُعتبر حساسة أو تمس قضايا سياسية داخلية.
نقص القدرات والموارد: في بعض الدول النامية، قد يكون التنفيذ صعبًا بسبب نقص الموارد المالية أو التقنية أو الخبرات اللازمة لتطبيق الإصلاحات التشريعية والمؤسسية المطلوبة.
ضعف آليات المتابعة الوطنية: حتى عندما تكون هناك إرادة لتنفيذ التوصيات، فإن ضعف الآليات الوطنية للمتابعة والتنسيق بين الوزارات والهيئات الحكومية يمكن أن يعرقل التقدم.
المصالح الجيو-سياسية: تلعب المصالح السياسية والاقتصادية للدول الكبرى دورًا في مدى الضغط الذي يمكن ممارسته على الدول المخالفة. فالدول التي تُعتبر حليفة أو ذات أهمية اقتصادية قد تحصل على تساهل أكبر في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان.
نقص الوعي والتعليم: قد يفتقر المسؤولون والمواطنون إلى الوعي الكافي بأهمية حقوق الإنسان، وبالمواثيق الدولية، مما يعوق المطالبة بتطبيق التوصيات.
توصيات الخبراء.. كيف تصبح التوصيات أكثر فعالية؟
يقدّم خبراء حقوق الإنسان عدة توصيات لجعل توصيات المجلس أكثر تأثيرًا، منها: تطوير مؤشرات واضحة وقابلة للقياس لمتابعة التنفيذ، وربط المساعدات الدولية بمستوى التزام الدول بالتوصيات الحقوقية، وكذلك تعزيز دور المجتمع المدني والإعلام في الرقابة، إضافة إلى إصلاح تركيبة المجلس لتقليل تأثير التجاذبات السياسية، وتعزيز الدبلوماسية الوقائية.
تُعد توصيات مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة إحدى أدوات الدفاع عن الكرامة الإنسانية في عالم مضطرب، حتى لو واجهت عراقيل كبيرة، وبينما يبدو الطريق نحو التنفيذ الشامل طويلًا ومعقّدًا، فإن وجود هذه التوصيات يظل ركيزة أساسية لردع الانتهاكات، وخلق سجل تاريخي يُدين من يرفض الالتزام بالقيم العالمية.
وفي النهاية، يظل التحدي الأكبر هو تحويل هذه التوصيات من نصوص دبلوماسية إلى التزامات ملموسة تصنع فرقًا حقيقيًا في حياة الشعوب، وتجعل من حماية حقوق الإنسان واقعًا لا مجرد شعار أو حبر على الورق.