"السقف المفقود".. لماذا يفشل العالم في حماية الحق في السكن؟
أزمة ممتدة بين الحرمان وارتفاع الأسعار والتشريد القسري
يُعتبر الحق في السكن اللائق حجرَ الزاوية في كرامة الإنسان وضمان استقراره وأمنه، إنه ليس مجرد مأوى من عوامل الطقس، بل هو أساس للصحة الجيدة، والتعليم، والعمل، والمشاركة في المجتمع، ومع ذلك، يواجه الملايين حول العالم تحديات جسيمة في الحصول على هذا الحق الأساسي، تتراوح بين أزمة السكن المتفاقمة التي تُعلي من تكاليف الإيجار والامتلاك، وصولاً إلى الممارسات الوحشية للتشريد القسري التي تُجبر الأسر على ترك منازلها بالقوة، "جسور بوست" تتناول في هذا التقرير قضية الحق في السكن اللائق، مستعرضة أبعاد أزمة السكن والتشريد القسري.
الحق في السكن اللائق.. ما الذي يعنيه القانون الدولي؟
يؤكد التعريف الذي تبنّته لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالأمم المتحدة أن "السكن اللائق" لا يقتصر على مجرد وجود سقف يحمي الإنسان من المطر والبرد، بل يشمل عناصر جوهرية مثل الأمان القانوني للحيازة، وتوافر الخدمات الأساسية، والقدرة على تحمّل التكاليف، والملائمة ثقافيًا وبيئيًا.
وفي تقريرها السنوي لعام 2024، شددت المقررة الخاصة المعنية بالحق في السكن على أن هذا الحق يرتبط جوهريًا بكرامة الإنسان، ويتقاطع مع حقوق أخرى كالحق في الصحة، والحق في التعليم، والحماية من الفقر.
أزمة سكن عالمية
تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) إلى أن نحو 1.6 مليار شخص يعيشون في مساكن غير ملائمة، بينما يفتقر أكثر من 100 مليون شخص إلى أي شكل من أشكال المأوى المستقر، مما يعكس فجوة حادة بين الالتزامات الدولية والواقع.
وترتبط أزمة السكن العالمية بظواهر متداخلة: النمو الحضري السريع، والمضاربات العقارية، وسياسات الخصخصة التي قوضت الإسكان الاجتماعي، فضلاً عن الحروب والكوارث الطبيعية التي تزيد أعداد المشردين قسرًا.
التشريد القسري.. جرح مفتوح في جسد العدالة الاجتماعية
التشريد القسري يمثل الانتهاك الأبرز للحق في السكن، حيث يجري انتزاع الأشخاص من مساكنهم دون موافقتهم الحرة، وبدون تعويض مناسب أو سكن بديل. وتُعرّف "هيومن رايتس ووتش" هذا الفعل بأنه جريمة عندما يتم خارج إطار القانون أو لأسباب تمييزية.
وتتراوح دوافع التشريد القسري بين مشاريع التنمية الحضرية التي تستهدف الفقراء لتوسيع المدن، والإخلاءات الناتجة عن النزاعات المسلحة، وأحيانًا بدعوى حماية البيئة أو الأمن القومي.
وفي تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية في منتصف 2024، وُثّقت عمليات إخلاء واسعة في مدن إفريقية وآسيوية، شُرّد فيها آلاف الأسر لتعبيد طرق جديدة أو إقامة مشاريع استثمارية، في انتهاك مباشر للمعايير الدولية.
بين النزاعات المسلحة والكوارث الضعفاء أول الضحايا
يظل الفقراء والأقليات والسكان الأصليون الأكثر عرضة للتشريد القسري، وتشير بيانات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن النزاعات دفعت أعداد النازحين داخليًا إلى أكثر من 71 مليون شخص حول العالم حتى نهاية 2024، معظمهم حرموا من السكن اللائق أو يعيشون في مخيمات مكتظة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
كما ساهمت الكوارث الطبيعية، مدفوعة بالتغير المناخي، في تفاقم الأزمة، ففي بنغلاديش على سبيل المثال، تسببت الفيضانات المتكررة في تشريد مئات الآلاف، بينما تُرك الكثيرون بلا دعم حكومي كافٍ لإعادة بناء منازلهم.
السياسات العقارية.. الربح على حساب الحق
في المدن الكبرى، أدت سياسات الخصخصة والتوجه للسوق الحرة إلى مضاعفة أسعار الإيجارات والعقارات، ما جعل السكن الملائم رفاهية لا تطالها غالبية الأسر ذات الدخل المتوسط والمنخفض، ووفق تقرير لـ برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UN-Habitat، تجاوزت تكلفة شراء شقة متواضعة في كثير من العواصم ما يعادل دخل 15 عامًا من العمل، بينما ارتفعت الإيجارات بمعدلات تفوق نمو الأجور بأضعاف.
وبحسب تقرير "أوكسفام" لعام 2024، أسهمت المضاربات العقارية في ترك آلاف الوحدات السكنية شاغرة بانتظار ارتفاع قيمتها، بدلًا من توجيهها لتلبية الاحتياجات الفعلية.
تحديات الحق في السكن في سياق النزوح الداخلي
لا تقتصر المشكلة على التشريد العابر للحدود.. فالنزوح الداخلي الناتج عن النزاعات أو التنمية أو الكوارث يمثل تحديًا أعقد، حيث لا يحصل النازحون على الحماية الكاملة الممنوحة للاجئين بموجب القانون الدولي.
وترى المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن كثيرًا من الدول تفتقر إلى استراتيجيات إسكان مستدامة للنازحين داخليًا، مما يُبقيهم لسنوات طويلة في أوضاع سكنية بائسة، ويؤثر على صحتهم البدنية والنفسية وقدرتهم على العمل والتعليم.
جهود أممية.. وإلى أين؟
رغم قتامة الصورة، بذلت الأمم المتحدة جهودًا مهمة لتعزيز الحق في السكن، أبرزها: وضع أجندة التنمية المستدامة 2030 التي نصّت في الهدف 11 على ضمان مدن ومستوطنات بشرية آمنة وميسورة التكلفة، وإصدار توصيات متخصصة، مثل "المبادئ الأساسية والإرشادات المتعلقة بعمليات الإخلاء القسري"، إضافة إلى تشجيع الدول على وضع سياسات للإسكان الاجتماعي وتحسين الأحياء الفقيرة.
غير أن هذه المبادرات كثيرًا ما تصطدم بغياب الإرادة السياسية أو ضعف التمويل، أو تُفرَّغ من محتواها عبر تنفيذ صوري يركز على الشكل دون معالجة جوهر المشكلة.
أصوات حقوقية: الحق في السكن حق لا رفاهية
تطالب منظمات مثل "الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان" و"منظمة العفو الدولية" بضرورة الاعتراف قانونيًا بالحق في السكن اللائق كحق أساسي، ووقف جميع أشكال الإخلاء القسري دون تعويض وإسكان بديل، وتعزيز الإسكان الاجتماعي وتمويله من الميزانيات العامة، وتمكين الفقراء من الوصول إلى الأراضي بأسعار عادلة، وإشراك المجتمعات المحلية في التخطيط العمراني.
ونوهت المطالب الحقوقية إلى دور التخطيط العمراني المستدام حيث يجب على المدن تبني خطط عمرانية تهدف إلى توفير سكن بأسعار معقولة، وتضمين المناطق الخضراء، وتوفير الخدمات الأساسية لجميع السكان، وليس فقط للفئات الميسورة.
وأكدت على مكافحة المضاربة العقارية حيث تتطلب الأزمة تدخلات حكومية للحد من المضاربة التي تُعلي من أسعار العقارات وتُحول السكن من حق أساسي إلى سلعة استثمارية، يمكن أن يشمل ذلك فرض ضرائب على العقارات الشاغرة أو تنظيم سوق الإيجارات، إضافة إلى تعزيز الحماية القانونية وتقديم حلول مبتكرة للسكن مثل السكن التعاوني، ومبادرات الإسكان الاجتماعي، واستخدام التقنيات الحديثة لخفض تكاليف البناء وتوفير سكن مستدام، مع التأكيد على مسؤولية القطاع الخاص من خلال تطوير مشاريع سكنية بأسعار معقولة والمشاركة في مبادرات الإسكان الاجتماعي.
معركة طويلة لكن ضرورية
يظل الحق في السكن اللائق حجر الزاوية في كرامة الإنسان واستقراره النفسي والاجتماعي، لكن ملايين البشر ما زالوا يدفعون ثمن السياسات غير العادلة والحروب والكوارث، وبين النصوص الدولية الجميلة والواقع القاسي، تبقى المعركة قائمة ليصبح هذا الحق واقعًا ملموسًا لا شعارًا قانونيًا.
وتؤكد تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية أن مواجهة أزمة السكن والتشريد القسري تتطلب إرادة سياسية صادقة، ورؤية عادلة تضع الإنسان وحقه في العيش بكرامة في صميم السياسات الاقتصادية والاجتماعية.