المحاكمات عن بُعد.. عدالة متسارعة أم انتقاص من حقوق المتهمين؟

المحاكمات عن بُعد.. عدالة متسارعة أم انتقاص من حقوق المتهمين؟
المحاكمة عن بعد باستخدام التكنولوجيا

في ظل التطور التكنولوجي المتسارع والظروف الاستثنائية التي كان أبرزها جائحة كوفيد-19، اتجهت العديد من الأنظمة القضائية حول العالم إلى تبني تقنية المحاكمات عن بُعد كحلٍ لضمان استمرارية العمل القضائي، فكرة تبدو عصرية وفعالة للوهلة الأولى، لكنها تثير في طياتها تساؤلات عميقة حول تداعياتها الحقوقية، وتحديدًا على مبادئ العدالة الأساسية مثل الحق في المحاكمة العادلة، والعلنية، وحق الدفاع.. "جسور بوست" في هذا التقرير تسعى لتقديم نظرة معمقة وشاملة حول قضية المحاكمات عن بُعد، مستعرضة مزاياها وتحدياتها، وتداعياتها الحقوقية.

عدالة في عصر الشاشات

تقوم فكرة المحاكمات عن بُعد على استخدام الوسائط الرقمية (مثل الفيديو كونفرنس) لعقد الجلسات القضائية دون حضور الأطراف فعليًا في قاعات المحاكم، وقد وجدت هذه الآلية انتشارًا متزايدًا في بلدان عديدة مثل الولايات المتحدة وفرنسا ومصر والمغرب والمملكة المتحدة، إذ اعتُبرت وسيلة لضمان استمرار عمل القضاء وتقليل التأخير المتراكم في الملفات القضائية.

وفق تقرير صادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان في يونيو 2022، شهد العالم ارتفاعًا غير مسبوق في عدد الجلسات المنعقدة عبر الإنترنت منذ عام 2020، لكن التقرير ذاته نبّه إلى أن هذه الخطوة، رغم ضرورتها في بعض السياقات، تنطوي على مخاطر جديّة، في حال لم تُرافقها ضمانات تكفل احترام حقوق المتهمين.

من أبرز المزايا التي تُساق لتبرير استخدام المحاكمات عن بُعد:

الفاعلية والكفاءة: يُمكنها تسريع إجراءات التقاضي، وتقليل الحاجة لنقل المتهمين من السجون إلى المحاكم، ما يوفر الوقت والجهد والتكاليف.

الوصول إلى العدالة: قد تُمكِّن الأفراد الذين يواجهون صعوبات في التنقل (بسبب المرض، الإعاقة، أو البعد الجغرافي) من المشاركة في الإجراءات القانونية.

الحد من المخاطر: في حالات الطوارئ الصحية أو الأمنية، تُقلل من مخاطر انتشار الأمراض أو التهديدات الأمنية المرتبطة بنقل المتهمين.

معايير المحاكمة العادلة في اختبار التكنولوجيا

يؤكد القانون الدولي، وخاصة المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على الحق في محاكمة علنية ونزيهة أمام محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة، مع توفير الوقت الكافي لإعداد الدفاع، وحضور المتهم جلسات محاكمته.

لكن تقارير صدرت عن هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية أظهرت أن المحاكمات الرقمية قد تقوّض بعض هذه الحقوق. على سبيل المثال، قد تؤثر جودة الاتصال التقني على قدرة المتهم على متابعة مجريات الجلسة، أو تضعف إمكانية التواصل السري والمباشر مع المحامي، ما يشكّل مساسًا جوهريًا بحق الدفاع.

وتطرقت العفو الدولية في تقريرها الصادر في مايو 2023 إلى حالات في عدة دول عربية جرى فيها نقل جلسات محاكمة معتقلين سياسيين إلى الفضاء الرقمي، وسط اتهامات باستخدام هذا الإجراء كأداة لعزل المتهمين عن ذويهم وعن الرأي العام.

بين الضرورة والاستثناء

يرى بعض المختصين أن المحاكمات عن بُعد يجب أن تُعتمد كإجراء استثنائي ومؤقت في ظروف خاصة، مثل تفشي وباء أو ظروف أمنية تمنع الانتقال الآمن، أما اعتمادها كخيار دائم فقد يؤدي إلى تطبيع تقليص الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة.

المحامي الفرنسي باتريك بيلو أشار في ندوة نظمتها الرابطة الدولية للمحامين عام 2022 إلى أن "التقنية قد تكون مفيدة في حالات بسيطة، لكن في القضايا المعقدة أو التي تمس حقوقًا أساسية، لا يمكن استبدال الحضور الفعلي للمتهم داخل المحكمة".

تجارب دولية متفاوتة

في المملكة المتحدة، أُطلقت منصات إلكترونية خاصة تتيح للمحامين والمتهمين التواصل بشكل سري قبل الجلسة، ضمن محاولة لتقليل أثر المحاكمات عن بُعد على الحق في الدفاع، أما في إيطاليا فقد جرى حصر هذه الآلية في الجلسات الإجرائية فقط، بينما ظلت جلسات الاستماع إلى الشهود أو المتهمين تُعقد حضوريًا.

في المقابل، أظهر تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2023 حول بعض الدول الإفريقية والآسيوية أن استخدام المحاكمات الرقمية توسّع ليشمل محاكمات جنائية خطيرة، بما في ذلك قضايا الإعدام، دون مراعاة كافية للمعايير الدولية.

التشهير والحق في العلنية

من زاوية أخرى، لفتت تقارير حقوقية إلى أن البث الحي للمحاكمات قد يسهم في تعزيز الشفافية، لكنه قد يتحول أيضًا إلى شكل من أشكال التشهير بالمتهمين، خاصة في القضايا التي لم يصدر فيها حكم نهائي، وأوصت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في تقريرها السنوي لعام 2022 بوضع ضوابط صارمة لمنع استغلال التسجيلات أو بث الجلسات بشكل ينتهك خصوصية المتهمين.

تثير المحاكمات عن بُعد مخاوف جدية بشأن أمن البيانات والخصوصية، فاحتمالية الاختراق، أو تسريب المعلومات الحساسة، أو التلاعب بالأدلة، تُشكل تهديدًا لموثوقية الإجراءات القضائية

تحذيرات أممية وحقوقية

حذّرت المفوضة السامية لحقوق الإنسان، في بيان رسمي، من أن استخدام التكنولوجيا في المحاكمات يجب ألا يكون بديلًا عن العدالة التقليدية، بل مكمّلًا لها، مع مراعاة التأكد من أن المتهمين يفهمون الإجراءات ضدهم، ويمكنهم التشاور بشكل فعال مع محاميهم.

وأكدت أن الدول التي تتجه إلى تعميم المحاكمات الرقمية مطالَبة بإجراء تقييم شامل لتأثير ذلك على العدالة، وإتاحة سبل الاعتراض للمتهمين الرافضين لهذه الوسيلة.

وشدد المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني باستقلال القضاة والمحامين في تقاريره على أن المحاكمات عن بُعد يجب أن تكون استثناءً وليست القاعدة، وأنها لا ينبغي أن تُستخدم في القضايا الجنائية الخطيرة، أو عندما يُطالب المتهم بحضوره الفعلي، أو عندما تعوق قدرته على التواصل الفعال مع محاميه.

كما أصدرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) إرشادات تُؤكد ضرورة أن تضمن المحاكمات عن بُعد الاحترام الكامل للحق في المحاكمة العادلة، بما في ذلك حق الوصول إلى محامٍ، والعلنية، ووجود ترجمة فورية عند الحاجة، كما تُشدد على ضرورة توفير البنية التحتية التكنولوجية الكافية وتدريب العاملين في المجال القضائي.

ومن الجانب الحقوقي أصدرت كل من منظمة العفو الدولية (Amnesty International) وهيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) تقارير وبيانات للإعراب عن قلقهما العميق بشأن استخدام المحاكمات عن بُعد، خاصة في القضايا الجنائية التي تنطوي على عقوبات سالبة للحرية، وقد وثقتا حالات تُظهر كيف تعوق هذه المحاكمات حق المتهم في الدفاع الفعال، وحق الوصول إلى محاميه بشكل سري.

كما أعربت نقابات المحامين والجمعيات القضائية في العديد من الدول عن تحفظاتها على المحاكمات عن بُعد، مُشيرة إلى أنها تُؤثر سلبًا على جودة العدالة وتعوق عمل المحامين.

هل يمكن الجمع بين السرعة والعدالة؟

يبقى السؤال الجوهري.. هل تستطيع الأنظمة القضائية الاستفادة من التكنولوجيا دون الإضرار بجوهر العدالة؟ يعتقد بعض الخبراء الحقوقيون أن الأمر ممكن عبر وضع معايير واضحة، منها: الاقتصار على المحاكمات عن بُعد في جلسات إجرائية لا تمس جوهر القضية، وضمان توفر وسائل آمنة وسرية لتواصل المتهم مع محاميه، وتوفير خيار الاعتراض على عقد الجلسة عن بُعد، والاستثمار في بنية تحتية تقنية موثوقة لتجنب الانقطاع والتشويش، واحترام الحق في علنية المحاكمة دون المساس بخصوصية المتهمين.

بينما يُنظر إلى الرقمنة كوسيلة لتسريع العدالة، فإن الخشية تبقى من أن تتحول إلى أداة لتقليص الحقوق الأساسية تحت شعار الحداثة والفعالية، ومع تزايد الاعتماد على هذه التكنولوجيا، سيبقى التحدي الأكبر هو كيفية الموازنة بين مقتضيات العصر الرقمي ومتطلبات العدالة الإنسانية، كي لا تتحول العدالة إلى مجرد صورة على شاشة.




ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية