القمع الرقمي.. كيف تحول الرقابة الإلكترونية حياة الصحفيين إلى سجن مفتوح؟
القمع الرقمي.. كيف تحول الرقابة الإلكترونية حياة الصحفيين إلى سجن مفتوح؟
شهدت السنوات الأخيرة تحوّلًا جذريًا في طبيعة التضييق على العمل الصحفي، فبينما ارتبطت الانتهاكات قديمًا بأعمال الترهيب الميداني والاعتقال والمصادرة، أصبحت اليوم تأخذ شكلًا أكثر خفاءً عبر المراقبة الإلكترونية، وحملات التشويه الممنهجة، وحجب المحتوى الرقمي، لتؤسس لما يُسمى بـالقمع الرقمي.
تقرير منظمة مراسلون بلا حدود لعام 2024 أكد هذه الأخطار، حيث وصف الصحفيين بأنهم يواجهون سجنًا افتراضيًا حتى خارج السجون الفعلية، نتيجة الاختراقات الإلكترونية والملاحقة القضائية بناءً على محتوى رقمي.
تاريخيًا، لم يكن القمع الرقمي سوى امتداد لسياسات رقابية قديمة، فمنذ مطلع القرن العشرين، مورست الرقابة على الصحف المطبوعة، ثم الإذاعات والقنوات التلفزيونية، ومع دخول الإنترنت منتصف التسعينيات، بدا وكأنه فضاءٌ حرّ، لكن سرعان ما بدأت الحكومات بإقرار قوانين لتنظيم المحتوى.
تقرير للأمم المتحدة عام 2011 حذر مبكرًا من أخطار الرقابة الإلكترونية، معتبرًا أن الحق في الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت هو امتداد لحرية الرأي والتعبير التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
القمع.. من الحجب للتجسس
القمع الرقمي لا يقتصر على حذف الأخبار أو تقييد الوصول إلى المواقع، بل يشمل أيضًا استخدام تقنيات التجسس، ففي تقرير نشرته العفو الدولية العام الماضي، تم الكشف عن استهداف أكثر من 180 صحفيًا في 20 دولة باستخدام برنامج بيغاسوس للتجسس على الهواتف المحمولة.
كما وثّقت منظمة فريدم هاوس في تقريرها لعام 2023 أن 47 دولة استخدمت أو اشترت أدوات تجسس رقمية لمراقبة النشطاء والصحفيين، وفي بعض الدول العربية، سُجلت حوادث لاختراق حسابات صحفيين مستقلين لتسريب محادثاتهم وتشويههم أمام الرأي العام.
وفي العالم العربي، تُظهر الأرقام صورة قاتمة فوفقًا لمنظمة مراسلون بلا حدود، هناك أكثر من 160 موقعًا إخباريًا محجوبًا في دول عربية منذ عام 2018.
وتؤكد هيومن رايتس ووتش أن قوانين الجرائم الإلكترونية تُستخدم في 13 دولة عربية لتجريم التعبير على الإنترنت، حيث حُكم على عشرات الصحفيين بالسجن بسبب تغريدات أو منشورات.
وتعود هذه السياسات إلى موجات "تشديد القبضة الرقمية" التي بدأت بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، حينما اكتشفت الحكومات قوة وسائل التواصل في الحشد وكسر الرقابة.
جرس إنذار عالمي
تُصدر المنظمات الحقوقية والأممية بشكل دوري تحذيرات قوية حول تدهور حرية الصحافة في ظل القمع الرقمي، فوفقًا لتقرير لجنة حماية الصحفيين (CPJ) لعام 2024، شهد العالم ارتفاعًا قياسيًا في عدد الصحفيين المسجونين، والعديد منهم يواجهون اتهامات تتعلق بـ "الأمن القومي" أو "نشر الأخبار الكاذبة" بسبب عملهم على الإنترنت.
ويشير التقرير إلى أن ما لا يقل عن 320 صحفيًا كانوا خلف القضبان في نهاية عام 2023، وأن عددًا كبيرًا منهم اعتُقلوا بناءً على أدلة تم الحصول عليها من المراقبة الرقمية لأنشطتهم.
وحذرت منظمة مراسلون بلا حدود (RSF)، في تقريرها لعام 2024، "مؤشر حرية الصحافة العالمي"، من تدهور غير مسبوق في حرية الصحافة في 70% من دول العالم. وتسلط المنظمة الضوء على أن القمع الرقمي أصبح الأداة الرئيسية للحكومات في خنق الأصوات المستقلة، مستشهدة بحالات مثل استخدام برامج التجسس المتطورة كـ"بيغاسوس" لاستهداف الصحفيين والمحققين، ليس فقط في الدول الاستبدادية، بل حتى في بعض الديمقراطيات.
وأكد مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في تقريره الأخير لعام 2023 أن المراقبة الرقمية غير المقيدة تشكل تهديدًا خطِرًا للحق في الخصوصية وحرية التعبير، وهما ركيزتان أساسيتان لعمل الصحافة، وشدد التقرير على ضرورة وضع أطر قانونية دولية صارمة لضمان أن تكون أي مراقبة قانونية ضرورية ومتناسبة، وأن تخضع لرقابة قضائية مستقلة.
الذكاء الاصطناعي والرقابة
اليوم، يضيف تطور الذكاء الاصطناعي بعدًا جديدًا للقمع الرقمي. فالخوارزميات قد تُستخدم لتحديد المحتوى غير المرغوب فيه وحذفه تلقائيًا، أو لتصنيف حسابات الصحفيين مزعجةً، ما يقلل وصولها للجمهور.
وفي عام 2023، نشرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان تقريرًا شدد على أن الاستخدام غير المنظم للذكاء الاصطناعي قد يؤدي لتضييق حرية الإعلام بشكل غير مسبوق، خصوصًا في الدول ذات الهامش الديمقراطي المحدود.
ويظهر الأثر الأشدّ في حياة الصحفيين اليومية؛ إذ يعيش كثيرون منهم حالة رقابة ذاتية خوفًا من الملاحقة الرقمية، وقد وجد استطلاع أجراه الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2022 أن 68% من الصحفيين العرب امتنعوا عن نشر موضوعات حساسة بسبب الخوف من الرقابة الإلكترونية.
كما أن بعض المؤسسات الإعلامية فضّلت إغلاق مواقعها أو تقليل نشر محتوى نقدي لتجنب الحجب أو الهجمات السيبرانية، ما يقلل من تنوع المشهد الإعلامي.
مقاومة ومبادرات
ورغم كل ذلك، برزت مبادرات للدفاع عن حرية الصحافة الرقمية، ففي 2022 أطلقت منظمة مراسلون بلا حدود مشروع الملاذ الرقمي للصحفيين، لتوفير أدوات حماية إلكترونية مجانية للصحفيين في مناطق النزاع.
كما دعت الأمم المتحدة عام 2023 إلى إقرار اتفاقية دولية لحماية الصحفيين الرقميين، تضمن عدم ملاحقتهم بسبب آرائهم المنشورة على الإنترنت.
وبحسب بيانات لجنة حماية الصحفيين لعام 2023، تم استهداف 57 صحفيًا في الشرق الأوسط ببرامج تجسس منذ 2017، كما تعرّضت أكثر من 600 مؤسسة إعلامية حول العالم لهجمات حجب الخدمة (DDoS)، وتم حجب 20% من المواقع الإخبارية المستقلة في خمس دول عربية.
وفقًا لبيانات مؤسسة حرية الإنترنت (Internet Freedom Foundation) لعام 2024 زادت الهجمات السيبرانية الموجهة ضد وسائل الإعلام والمنظمات الإخبارية بنسبة 45% خلال العامين الماضيين، ما يعرض بيانات الصحفيين ومصادرهم للخطر.
كما تزايد الحجب والتضييق، ففي ما يقرب من 60 دولة حول العالم تستخدم أساليب حجب الإنترنت أو حظر تطبيقات المراسلة خلال الأزمات أو الانتخابات، ما يعوق قدرة الصحفيين على نقل المعلومات.
وتم تمرير قوانين جديدة في أكثر من 50 دولة خلال السنوات الخمس الماضية، تسمح للحكومات بمزيد من الصلاحيات لمراقبة الإنترنت والتحكم في المحتوى، غالبًا تحت ذريعة مكافحة "الأخبار الكاذبة" أو "الإرهاب".
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 70% من الصحفيين المسجونين حاليًا اعتقلوا بسبب محتوى نشروه على منصات رقمية أو أنشطة رقمية (مثل التواصل مع المصادر عبر تطبيقات مشفرة).
مكافحة القمع الرقمي
لمكافحة القمع الرقمي، تحتاج مهنة الصحافة إلى استراتيجيات جديدة وفق خبراء ومتخصصين منها تدريب الصحفيين على الأمن الرقمي لحماية أنفسهم ومصادرهم، كما يجب على المنظمات الصحفية والحقوقية تعزيز تعاونها للضغط على الحكومات، وتوثيق الانتهاكات، وتقديم الدعم للصحفيين المعرضين للخطر.
إلى جانب المطالبة بسن قوانين تحمي حرية الصحافة والخصوصية الرقمية، وتحد من صلاحيات المراقبة الحكومية، ودعم دعم الصحافة الاستقصائية التي تكشف عن أساليب القمع الرقمي وتفضح المتورطين فيها، إضافة إلى البحث عن طرق مبتكرة لنشر المعلومات والوصول إلى الجمهور في البيئات المقيدة، مثل استخدام الشبكات اللامركزية أو الأدوات المفتوحة المصدر.