قمع حرية التعبير.. سجن صحفية يثير رعباً من انتكاسة ديمقراطية في جورجيا

قمع حرية التعبير.. سجن صحفية يثير رعباً من انتكاسة ديمقراطية في جورجيا
الصحفية الجورجية مزيا أماغلوبيلي

في واقعة أثارت عاصفة من الانتقادات محليًا ودوليًا، حُكم على الصحفية الجورجية المعروفة مزيا أماغلوبيلي بالسجن لمدة عامين، بعد أن أدانتها محكمة محلية بتهمة "الاعتداء على رجل أمن" خلال مظاهرة بمدينة باتومي الساحلية في يناير الماضي. لكن كثيرين، داخل وخارج جورجيا، لا يرون في القضية سوى حلقة جديدة من حملة قمع متصاعدة تستهدف الصحافة والمعارضة وحرية التعبير في البلاد.

أماغلوبيلي، البالغة من العمر خمسين عامًا، والمديرة المؤسسة لصحيفتي باتومي ليبي ونيت غازيتي المستقلتين، لم تكن مجرد صحفية لقد أصبحت رمزًا للنزاهة الإعلامية ومقاومة الخوف في وجه السلطة، وهي الآن أول صحفية تُسجن لأسباب سياسية منذ استقلال جورجيا عن الاتحاد السوفييتي عام 1991، بحسب ما ذكرت منظمة مراسلون بلا حدود، اليوم الخميس.

حكم المحكمة جاء رغم تسجيل فيديو بثه التلفزيون الجورجي يُظهر أماغلوبيلي وهي تصفع ضابط شرطة بعد نقاش حاد أثناء احتجاج سلمي. وأثار الحادث موجة تعاطف واسعة، لكن القضاء الجورجي بدا مصممًا على تقديم رسالة سياسية أكثر منها قانونية.

أماغلوبيلي قالت أمام المحكمة: "مهما كان قراركم، أريدكم أن تعلموا أنني أعد نفسي منتصرة".

هذه الكلمات، رغم بساطتها، أصبحت شعارًا لتظاهرات واحتجاجات جديدة طالبت بالإفراج عنها، ورفضت ما وصفته منظمات حقوقية بـ"سياسة تكميم الأفواه".

"صفعة رمزية"

منظمة مراسلون بلا حدود وصفت الحكم بأنه "صفعة رمزية" تعكس "النزعة الاستبدادية المتصاعدة" للحكومة الجورجية، مطالبة بالإفراج الفوري وغير المشروط عن أماغلوبيلي.

أما الاتحاد الأوروبي، الذي حضر عدد من دبلوماسييه جلسات المحاكمة، فقد أعرب عن "قلقه العميق" من انحدار معايير الحريات الأساسية في جورجيا، كما أكدت الرئيسة الجورجية السابقة سالومي زورابيشفيلي التي شاركت في وقفة تضامنية أمام المحكمة: "الديمقراطية في جورجيا باتت على المحك".

أزمة سياسية متصاعدة

الحكم على أماغلوبيلي لم يأتِ بمعزل عن المناخ السياسي المضطرب في جورجيا، فمنذ الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2024، والتي فاز فيها حزب "الحلم الجورجي" الحاكم وسط اتهامات بالتزوير، تشهد البلاد احتجاجات واسعة النطاق واعتقالات طالت قيادات معارضة وناشطين حقوقيين.

وفي نهاية عام 2024، أعلنت الحكومة تعليق مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهي خطوة اعتبرها كثيرون إشارة واضحة إلى ابتعاد جورجيا عن قيم الديمقراطية الأوروبية. الحكومة قابلت الاحتجاجات المناهضة لهذا القرار بقمع عنيف واعتقالات تعسفية.

وقد وُضعت أماغلوبيلي في الحبس الاحتياطي منذ يناير 2025، وأعلنت إضرابًا عن الطعام استمر 38 يومًا احتجاجًا على ظروف اعتقالها، في موقف لاقى اهتمامًا إعلاميًا كبيرًا وأدى إلى تدهور حالتها الصحية.

غياب ضمانات المحاكمة العادلة

وفقًا للقانون الجورجي، فإن الاعتداء على موظف حكومي يُعد جريمة، إلا أن تطبيق هذا القانون على سياق احتجاجي سياسي، وسط غياب ضمانات المحاكمة العادلة، يثير مخاوف من تسييس القضاء.

أما من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن ما حدث يمثل خرقًا واضحًا لعدة معاهدات وقعت عليها جورجيا، منها: العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يضمن الحق في التعبير والتجمع السلمي، واتفاقية حماية المدافعين عن حقوق الإنسان التي تحمي الصحفيين والناشطين من الانتقام الرسمي.

ووفقًا لمنظمة العفو الدولية، فإن "الحكم على أماغلوبيلي يعكس استخدام القضاء أداة قمعية لإسكات الأصوات الناقدة".

الإحصاءات ترسم صورة قاتمة

تشير تقارير منظمات محلية إلى تزايد وتيرة التضييق على الصحافة وحرية التعبير في جورجيا كما يلي:

10 صحفيين تعرضوا للاعتقال أو التهديد بالملاحقة القضائية منذ يناير 2024.

أكثر من 60 ناشطًا اعتقلوا خلال احتجاجات سياسية، بعضهم ما يزال رهن الاعتقال التعسفي.

 تراجعت جورجيا إلى المرتبة 89 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2025، بعد أن كانت في المرتبة 71 عام 2020.

من هي مزيا أماغلوبيلي؟

بدأت أماغلوبيلي مسيرتها الصحفية قبل أكثر من عقدين، وأسست صحيفتين مستقلتين رغم التحديات السياسية والاقتصادية، كانت معروفة بجرأتها في انتقاد الفساد وتغطية الاحتجاجات، وهو ما جعلها هدفًا متكررًا للسلطات.

حياتها المهنية تجسّد نضالًا طويلًا من أجل إعلام حر ومستقل، وغالبًا ما كانت تُمنع صحفها من الوصول إلى التوزيع الرسمي أو الدعم الإعلاني، ومع ذلك واصلت الكتابة والتغطية.

ويرى مراقبون أن تعامل الحكومة الجورجية مع أماغلوبيلي ليس مجرد حالة فردية، بل يعكس تحولًا أيديولوجيًا مقلقًا.

ففي الوقت الذي تتزايد فيه الخطابات المعادية للاتحاد الأوروبي داخل الحكومة، تقترب جورجيا بشكل متزايد من النفوذ الروسي، سواء سياسيًا أو إعلاميًا.

ويرى بعض المحللين أن السلطة تستغل ملفات حرية التعبير وحقوق الإنسان "أوراق تفاوض"، في حين تسعى إلى إعادة تشكيل البيئة السياسية بما يضمن بقاءها في الحكم دون معارضة فعالة.

إلى أين تتجه جورجيا؟

حالة أماغلوبيلي تمثل جرس إنذار للمنطقة، بل للعالم، بأن الحرية ليست مكتسبة إلى الأبد، بل تحتاج إلى دفاع دائم. وإذا لم يتدخل المجتمع الدولي بفاعلية، فإن جورجيا قد تنحدر تدريجيًا إلى نموذج سلطوي يُقصي الصحفيين، ويقمع المتظاهرين، ويحتكر الحقيقة.

ما حدث في باتومي لم يكن مجرد صفعة على وجه شرطي، بل كان -كما قالت مراسلون بلا حدود- صفعة على وجه الديمقراطية، لافتة أن قضية أماغلوبيلي تكشف هشاشة الحريات في جورجيا، لكنها أيضًا تبرز قوة الكلمة حين ترفعها امرأة ضد سلطة تحاول إسكاتها مشددة على أنه في النهاية، لا مستقبل آمن لأي دولة لا تحمي حرية التعبير، ولا مجتمع مزدهر بدون صحافة مستقلة، ولا كرامة وطنية إن كانت الكلمة تُكافأ بالسجن.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية