في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيو غزة يفضحون جرائم الحرب رغم الموت والجوع

في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيو غزة يفضحون جرائم الحرب رغم الموت والجوع

واجه الصحفيون الفلسطينيون خلال تغطيتهم الميدانية لحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة ظروفًا إنسانية وأمنية قاسية، جعلت من رسالتهم المهنية مهمة محفوفة بالأخطار والتحديات. فبين القصف والمجاعة والنزوح، استمرت معاناتهم وسط غياب الحماية الدولية وغياب الأدوات الأساسية للعمل الإعلامي.

وأشارت تقارير منظمات حقوقية وإعلامية دولية إلى أن قطاع غزة بات فعليًا أكثر الأماكن خطورة في العالم لممارسة العمل الصحفي، نتيجة الاستهداف المباشر والمتكرر للصحفيين والمرافق الإعلامية، في ظل غياب تام لأي ضمانات لحمايتهم.

وللعام الثاني على التوالي، تحل ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة في وقت تعيش فيه الصحافة الفلسطينية أوضاعًا مأساوية، تراوح بين القتل المتعمد ونقص المعدات وتهالكها، وسط حصار خانق يهدد الأرواح بمجاعة محققة.

قصف الخيام ومقرات الإعلام

رغم المطالبات الدولية بضرورة تجنيب الصحفيين سياسة الاستهداف، لم تتوقف إسرائيل عن قصف مواقعهم، حيث استُهدفت خيامهم في مستشفيات عدة، أبرزها مستشفى شهداء الأقصى والمعمداني، وكان آخرها مجمع ناصر الطبي. تقول سالي ثابت، مراسلة قناة الكوفية في غزة، إن استهداف الصحفيين بلغ مستويات غير مسبوقة، شملت قصف خيامهم الصحفية التي لجؤوا إليها بعد تدمير مكاتبهم.

وتوضح ثابت لـ"جسور بوست": "لا يوجد احترام للسترة الصحفية، فرغم وجود قوانين ومعاهدات تضمن حماية الصحفيين خلال النزاعات، فإن الصحفي الفلسطيني يُستثنى من هذه الحماية، فلم تنقذنا الخوذة ولا السترة من المذبحة".

لا تزال ثابت تتذكر قصف خيمة الصحفيين في محيط مستشفى شهداء الأقصى أثناء تغطيتها لمجريات الحرب. تقول: "خشيت على حياتي وعلى زملائي، لم أتوقع أن تكون أهوال الحرب بهذا الشكل حتى في أكثر الكوابيس فظاعة". وتضيف بصوت حزين: "أكبر مخاوفي كانت حين انقطع الاتصال مع عائلتي بعد نزوحهم إلى مكان مجهول، وكنت ألجأ للمسعفين لمعرفة أماكن القصف ومدى قربها من عائلتي".

نزوح ومعاناة ميدانية

عاشت الصحفية ألوانًا متعددة من المعاناة، بين فقدان مقر عملها الذي وصفته بـ"البيت الثاني"، وانقطاع الإنترنت، والنزوح المتكرر الذي تجاوز عشر مرات، فضلاً عن صعوبة التنقل بسبب انعدام الوقود، ما اضطرها لاستخدام وسائل بدائية للوصول إلى مواقع التغطية.

رغم كل ما مرت به، لا تنسى الصحفية مجزرتي عائلتي عسفة ومقبل. تقول: " في أثناء التغطية، رأيت أمًا تبحث عن أشلاء أبنائها. وبين أنقاض القصف وجدت طفلتها بلا أثر للدماء، فارقت الحياة بهدوء مفجع، وحين وضعتها بين يدي أمها شعرت أن الطفولة كلها قد ماتت".

ورغم عودتها أخيرًا إلى مدينة غزة، وبدء عملها من مستشفى المعمداني رغم فقدان معظم معداتها، لا تزال ثابت تعد الاستمرار في التغطية واجبًا مهنيًا وأخلاقيًا. وتتمنى أن تنتهي الحرب ويعود السكان إلى ما تبقى من حياتهم.

النجاة من الموت.. التحدي الأكبر

من جانبه، يعيش محمد الأسطل، مراسل شبكة أجيال الإذاعية، قلقًا دائمًا على حياته وعلى أسرته التي تتابعه خلال تغطياته المباشرة وسط أصوات القصف. يقول لـ"جسور بوست": "النجاة من الموت هو التحدي الأبرز. الصحفي أقرب للموت من أي مواطن آخر، بسبب وجوده الدائم في الميدان".

ويضيف الأسطل: "الصحفي كغيره يعاني من ويلات النزوح، وفقدان بيته وممتلكاته، ويسعى بكل الطرق لحماية أسرته". كما لم ينس التطرق للمجاعة التي تضرب قطاع غزة: "توفير الطعام أصبح مهمة شبه مستحيلة، نحن نعيش تجويعًا ممنهجًا، والبحث عن الطعام أمر مرهق نفسيًا وبدنيًا".

إبادة إعلامية صامتة

ويرى الأسطل أن حجم التحديات التي تواجه الصحفي الفلسطيني لا يمكن مقارنتها بأي مكان آخر في العالم. ويقول: "نحن نعيش إبادة كاملة بكل تفاصيلها، ومع ذلك نجحنا في نقل صورة الحرب للعالم، في ظل منع دخول الإعلام الأجنبي إلى غزة، فحمّل الصحفي الفلسطيني وحده عبء التغطية والتوثيق رغم الخطر".

وختم الأسطل حديثه برسالة: "نناشد كل الصحفيين والمؤسسات المعنية بحرية الإعلام بمحاولة الدخول إلى غزة لتغطية ما يحدث، وإن تعذر ذلك، فعلى الأقل يجب توفير أدوات الحماية اللازمة. وإن عجزتم عن ذلك، فاجعلوا رسالتنا تصل، لأن العمل الصحفي هنا يُعادل الموت".

جهود النقابة في دعم الصحفيين 

أكد عاهد فروانة، أمين سر نقابة الصحفيين الفلسطينيين، أن الصحافة الفلسطينية واجهت أكبر وأخطر مجزرة في تاريخ الإعلام العالمي، حيث قُتل أكثر من 200 صحفي، وأصيب واعتُقل المئات، ودُمِّرت المؤسسات الإعلامية بالكامل، فيما مُنع الإعلام الأجنبي من دخول القطاع لتغطية مجريات الحرب.

وقال فروانة في حديثه لـ"جسور بوست": "اضطر الصحفيون للعمل من المستشفيات ومراكز الإيواء والخيام، أو حتى من المناطق الخطرة، وسط انقطاع دائم للكهرباء والإنترنت، ما خلق بيئة غير صالحة لممارسة العمل الصحفي".

وأضاف أن الصحفي الفلسطيني، رغم الاستهداف المتواصل، أصرّ على أداء رسالته المهنية والأخلاقية، محاولًا فضح الجرائم المرتكبة بحقه وبحق أبناء شعبه، مؤكدًا أن المسؤولية أصبحت مضاعفة على عاتق الإعلاميين في ظل محاولات التهجير والقتل المنهجي.

توثيق الانتهاكات وملاحقة الجناة

أوضح فروانة أن النقابة باشرت منذ اليوم الأول للحرب بتوثيق الانتهاكات ضد الصحفيين، بالتعاون مع منظمة اليونسكو، عبر إعداد استبيانات دقيقة شملت حالات القتل والإصابة والاعتقال وكافة الأضرار.

وكشف أن النقابة حصلت على توكيلات من ذوي الشهداء الصحفيين لرفع دعاوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، لمواصلة متابعة قضايا قُدّمت سابقًا قبل السابع من أكتوبر، ومن بينها قضية الصحفية شيرين أبو عاقلة.

وطالب فروانة بضرورة ضمان محاكمة قادة الاحتلال، مؤكدًا أن الصحفيين يتمتعون بحماية دولية مكفولة بموجب الاتفاقيات الدولية.

رواية الفلسطينيين تكسر التضليل الإسرائيلي

ثمّن فروانة الدور الكبير للصحفي الفلسطيني في دحض الرواية الإسرائيلية، قائلاً: "تمكن الصحفيون الفلسطينيون من كشف الحقيقة للعالم رغم التضليل الذي مارسه الاحتلال على قادة الدول الكبرى".

وأشار إلى أن الرواية الفلسطينية بدأت تلقى صدىً عالميًا، كما ظهر في المسيرات الدولية الداعمة لغزة، والتي حملت صور المجازر وحجم الدمار الهائل.

ووجه تحية تقدير للصحفيين في اليوم العالمي لحرية الصحافة، داعيًا لمواصلة جهودهم في نقل معاناة الشعب الفلسطيني، ومعلنًا عن استمرار النقابة بمحاولات توفير كل سبل الدعم الممكنة لهم.

مناشدة للمجتمع الدولي

أعرب فروانة عن تضامنه الكامل مع الصحفيين الفلسطينيين الذين يواصلون أداء رسالتهم تحت ظروف قاهرة، وناشد الاتحاد الدولي للصحفيين دعمهم بكل الإمكانات.

وطالب المجتمع الدولي بضرورة الضغط على السلطات الإسرائيلية لضمان حماية الصحفيين، والإسراع في محاكمة قادته على الجرائم المرتكبة، لمنع مزيد من الانتهاكات بحق الإعلاميين.

تنديد حقوقي باستهداف الصحفيين

من جهته، ندّد جهاد عوض الله، مدير الجمعية الفلسطينية لدراسات حقوق الإنسان، بالممارسات الإسرائيلية تجاه الأسرة الصحفية، رغم صراحة القوانين والمواثيق الدولية التي تحظر استهداف الصحفيين في مناطق النزاع.

وقال عوض الله لـ"جسور بوست": "على الرغم من كون الصحفيين مدنيين محايدين، إلا أنهم يقعون دائمًا في مرمى نيران الاحتلال، رغم احتياطاتهم البسيطة المتمثلة بارتداء السترات والخوذ الزرقاء المميِّزة".

استهداف الصحفيين جريمة حرب

أشار عوض الله إلى أن قتل الصحفيين عمدًا يعد جريمة حرب تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، استنادًا إلى المادة 8 من نظام روما الأساسي، كما يشكل حرمانًا تعسفيًا من الحق في الحياة بموجب المادة 6 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

وأوضح أن استهداف الإعلاميين لا يقتصر على الاعتداء الجسدي فقط، بل يمتد إلى انتهاك حرية التعبير، المكفولة وفق القانون الدولي، وبخاصة المادتين 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

دعوة لتسريع التحقيقات الدولية

طالب عوض الله المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بالإسراع في إنجاز التحقيقات المتعلقة بالجرائم المرتكبة في فلسطين، ولا سيما بحق الصحفيين الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لنقل الحقيقة.

وأكد أن الشعب الفلسطيني ينتظر تحقيق العدالة والإنصاف منذ زمن بعيد، وأن استمرار تأخير التحقيقات يشجع الاحتلال على مواصلة جرائمه دون رادع.

أرقام تقرع جرس الإنذار

ووفق آخر بيانات صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، قتلت إسرائيل 212 صحفيًا منذ بدء الحرب، فيما وثّقت نقابة الصحفيين إصابة 211 آخرين، وتدمير 87 مؤسسة إعلامية.

وأشارت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) إلى أن غزة أصبحت من أخطر مناطق العالم للعمل الصحفي، في حين وصف الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2024 بأنه "الأكثر دموية"، إذ قُتل خلاله 104 صحفيين حول العالم، أكثر من نصفهم في غزة ولبنان.

وفي مايو 2024، منحت اليونسكو جائزتها العالمية لحرية الصحافة "غييرمو كانو" للصحفيين الفلسطينيين في غزة، تقديرًا لشجاعتهم الاستثنائية.

الصحافة في مواجهة الموت

أورد تقرير لـ"يورونيوز" بعنوان "العمل على حافة الموت"، أن استهداف الصحفيين في غزة عاد مع استئناف الجيش الإسرائيلي لعملياته، ما رفع حصيلة الضحايا إلى 212 صحفيًا وصحفية، بينهم 27 امرأة، بحسب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

وأكد المكتب أن الصحفيين يتعرضون للاعتقال وسوء المعاملة وأحيانًا التعذيب، إلى جانب التهديد بالعنف الجنسي ضد الصحفيين والصحفيات، كما حذّر من تصعيد غير مسبوق في استهداف الإعلاميين الفلسطينيين.

حرب تُدفن فيها الحقيقة

بيّنت دراسة صادرة عن جامعة براون أن الحرب في غزة هي الأشد دموية ضد الصحفيين، متهمة الجيش الإسرائيلي بشن "حرب بلا هوادة" عليهم. وأوضح تقرير في مجلة "فورين بوليسي" أن عدد الصحفيين الذين قُتلوا في غزة فاق عدد قتلى الصحفيين في الحروب الكبرى مجتمعة، بما فيها الحربين العالميتين.

ووفقًا لـ"مراسلون بلا حدود"، تواصل إسرائيل منع الصحفيين الأجانب من دخول غزة، كما تحرم الصحفيين الفلسطينيين المنفيين من العودة، في محاولة لعزل القطاع إعلاميًا.

بدأت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، وخلالها واجه الصحفيون الفلسطينيون موجة غير مسبوقة من الاستهداف والقتل والاعتقال، وسط صمت دولي وتراخٍ أممي تجاه جرائم موثقة ضد الإعلاميين. وعلى مدار أكثر من ستة أشهر، أصبح الصحفي الفلسطيني رمزًا للصمود ونقل الحقيقة، في معركة تدور فيها الكاميرا جنبًا إلى جنب مع الرصاص.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية