حين تُهدر الكرامة على أعتاب الخوف.. مأساة حلق الشوارب قسراً في السويداء السورية

حين تُهدر الكرامة على أعتاب الخوف.. مأساة حلق الشوارب قسراً في السويداء السورية
لحظة حلاقة شارب الشيخ مرهج شاهين في السويداء

في أحد أحياء مدينة السويداء جنوب سوريا، استيقظ الأهالي على خبر وفاة الشيخ مرهج شاهين، الرجل السبعيني ذي الملامح المتعبة، بعد أن تدهورت حالته الصحية والنفسية نتيجة ما وُصف بأنه "إهانة متعمدة" تعرّض لها على يد أحد عناصر الأمن الحكومي السوري، إذ ظهر الشيخ في مقطع مصور تكسو الحسرة ملامح وجهه وهو مجبر على الجلوس لحلق شاربه أمام الناس. 

والشيخ شاهين، المعروف لدى أهالي ريف السويداء الغربي بوقاره وحكمته، يعد من كبار رجالات الطائفة الدرزية في بلدة الثعلة، ويعتبره الكثير من أبناء منطقته مرجعًا في حل النزاعات القبلية والاجتماعية، ورغم أنه لم يعرف عنه أي انخراط مباشر في السياسة أو النزاعات المسلحة، لم يسلم من توتر واضطراب السياق الأمني والسياسي الذي تشهده سوريا.

ومؤخرا انتشرت مقاطع مصورة على منصات التواصل العربية لعناصر من الأمن الحكومي السوري وهم يجبرون شباباً وكهولاً من الطائفة الدرزية على الجلوس لحلق شواربهم ولحاهم، في مشهد يعكس الإهانة والإذلال، إذ يعتبر الشارب واللحى رمزًا للرجولة والكرامة، ويمثل في ثقافتهم أكثر من مجرد شعر على الوجه، بل هو عنوان الهيبة والمروءة والشرف.

اتباع موقف الحياد

ولم يكن الاستهداف الأخير لأبناء الطائفة الدرزية هو الأول من نوعه في سوريا، فمنذ بداية الصراع عام 2011، سعت الطائفة التي تتركز بشكل رئيسي في محافظة السويداء، إلى اتباع موقف الحياد، وتجنب الانخراط المباشر في القتال، لكن هذا الحياد والاجتناب لم يحمِ أبناءها من التعرض للضغوط والإذلال والموت قتلا وكمدا.

وفي عام 2015، هزت مجزرة قلب المحافظة حين هاجم تنظيم "داعش" قرى شرق السويداء، ما أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص واختطاف العشرات من النساء والأطفال، ورغم فداحة الهجوم، لم تقدم الدولة السورية الحماية الكافية، ما عمّق مشاعر الإحباط والخذلان بين أبناء الطائفة.

وتعرض شبان الطائفة الدرزية لضغوط مستمرة من النظام السوري السابق للالتحاق بالخدمة العسكرية، ما دفع الكثيرين إلى الفرار، أو الاختباء، أو حتى الانتحار، وفي الوقت نفسه، اختطفت أعداد منهم على الطرقات إما لأسباب طائفية أو لابتزاز أهاليهم ماليا وطلب الفدية.

وخلال السنوات الأخيرة، شهدت محافظة السويداء سلسلة من الاحتجاجات السلمية، رفضاً للواقع الاقتصادي المتردي والأوضاع الأمنية المنفلتة، مطالبة بـ"الكرامة والعدالة والحرية"، لكن هذه التحركات، التي غالباً ما يقودها ناشطون من الطائفة الدرزية، تقابل بالتجاهل أو القمع العنيف.

ليسوا أرقاما في تقارير

في وقت تتزايد فيه معاناة المدنيين في محافظة السويداء السورية، عبرت العديد من المنظمات الحقوقية الدولية عن بالغ قلقها الإنساني تجاه التقارير الواردة من قلب المحافظة، والتي توثق انتهاكات جسيمة تمارسها القوات الأمنية والعسكرية بحق أبناء الطائفة الدرزية، وسط صمت دولي مؤلم.

واستشهدت هذه المنظمات بشهادات ميدانية وتقارير حقوقية، وثقت سلسلة مروعة من الممارسات التي طالت مواطنين عزّل، شملت حملات تنكيل منظمة بحق المدنيين الأبرياء، وإهانات تمس الكرامة الإنسانية وتترك ندوبًا لا تُشفى، واعتقالات تعسفية دون أي سند قانوني أو ضمانات قضائية، وتهديد صريح للسلم الأهلي داخل المدينة التي لطالما كانت نموذجا للتعايش.

ودعت المنظمات إلى عدم اعتبار هؤلاء المدنيين مجرد أرقام وإحصاءات في تقارير، بل هم أسر مكلومة، وأمهات يجهلن مصير أبنائهن، وشباب حُرموا من أبسط حقوقهم في الحرية والكرامة، واعتبارهم ضحايا يُعاقبون على موقفهم أو على مجرد وجودهم في المكان الخطأ، في الزمان الخطأ.

ومشاهد إذلال أبناء الطائفة الدرزية مؤخرا، يستدعي توجيه نداء إنساني عاجل إلى المجتمع الدولي، للمطالبة بوقف فوري لجميع الانتهاكات بحق سكان السويداء، وفتح تحقيق دولي مستقل وشفاف يكشف حقيقة ما يحدث، بعيدًا عن التسييس، ومحاسبة الجناة وفق آليات العدالة الدولية، لتستعاد كرامة الضحايا، وتوفير الحماية الفعلية لجميع المدنيين، باعتبار ذلك مسؤولية مباشرة على عاتق الدولة السورية، وكذلك تمكين منظمات حقوق الإنسان من دخول المدينة وتوثيق الانتهاكات ميدانيًا، لا سيما أن الإفلات من العقاب يقوض عملية السلام في سوريا.

وفي أواخر يناير الماضي، أعلنت الإدارة السورية الجديدة، تعيين أحمد الشرع رئيسا للبلاد في المرحلة الانتقالية، وذلك بعد أكثر من شهر من الإطاحة بالرئيس المخلوع بشار الأسد، وتفويضه تشكيل مجلس تشريعي للمرحلة الانتقالية بعد حل مجلس الشعب وإلغاء الدستور.

معارك العيش والكرامة

ولا يزال مشهد إجبار الرجال في أحياء مدينة السويداء على حلق شواربهم ولحاهم يعتصر القلوب، إذ التقطت عدسات الكاميرات رجلا يجلس أمام منزله المتواضع، يراقب الطرق الخالية بحثا عن ذكرى أبنائه الثلاثة، الذين تم اختطاف اثنين منهم على يد الجماعات المسلحة عقب الحرب، بينما يعيش الثالث في حالة خوف دائم من الاعتقال.

وقال الرجل الستيني بنبرة وهن وعجز: "نحن لسنا طرفاً في هذه الحرب، لكننا دائماً ما ندفع الثمن، لا النظام يحمينا، ولا المعارضة ترانا، والآن حتى لقمة العيش والحياة بكرامة وشرف أصبحت معركة".

تنهمر دموع الرجل العجوز بانكسار بينما يواصل وصف معاناته دون أن يرفع عينيه عن الطريق، وكأن عودة أبنائه المفقودين تحت نيران الموت والخوف مرهونة بظهور شيء ما في الأفق، وبحركة تلقائية يرفع يده المرتجفة إلى وجهه الحليق قسرا، كأنه يتحسس ما تبقى من كرامته المسلوبة، قائلا: "حلقوا الشارب واللحية، وقالوا لنا: هذه رسالة.. لكن أي رسالة هذه؟ أهي إذلال الرجال أم تكسير ما بقي فينا من كبرياء".

وجوه شاحبة وعيون مرهقة

بوجوه شاحبة وعيون مرهقة من السهر والخوف، تقف النساء في تجمعات صغيرة عند أطراف الأحياء في السويداء، كأنهن يحتمين ببعضهن بعضاً من واقع يرعبهن، بعد أن فقد رجالهن الهيبة والكرامة جبرا بحلق شواربهم ولحاهم، 

إحداهن تمسك بعباءتها المرتجفة وكأنها درع، تقول بصوت مبحوح: "زوجي اعتقلوه لأنه سأل عن جاره المختفي، لم نعد نعرف إن كان السؤال جريمة أم الصمت هو النجاة"، وأخرى تضم طفلها إلى صدرها وكأنها تشفق عليه من وطن لم يرحم أبناء جلدته، فيما ينطق الصمت من أفواه النساء الأخريات بالخوف والهلع، ويصبح السكوت لغة مشتركة بينهن.

ويستوطن الخوف في السويداء الملامح والبيوت والأرواح ليسرق من أبناء هذه المدينة الشعور بالأمان والطمأنينة والراحة، في مشهد قاسٍ كأن الأحياء والشوارع والجدران تبكي حكايات الرجال والنساء، وتأمل في بيوت خالية من الأوجاع والآلام وغياب الأحبة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية