على وقع إقالة القضاة.. تونس تدخل نفقاً جديداً يهدد الحريات
على وقع إقالة القضاة.. تونس تدخل نفقاً جديداً يهدد الحريات
كأنها تسقط في أكوام من الرمال المتحركة، انغمست الأزمة التونسية الممتدة منذ نحو عام، في معضلة جديدة بقرار إقالة عشرات القضاة في البلاد، في خطوة اعتبرها كثيرون "تقويضا للسلطة القضائية".
والأربعاء، أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد، أمرا رئاسيا يقضي بإعفاء 57 قاضيا من مهامهم، عقب صدور قرار آخر بتعديل قانون المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، بما يسمح له بإعفاء كل قاضٍ تعلقت به "شبهة فساد".
ووصف معارضون القرار بـ"محاولة تقويض استقلال السلطة القضائية" و"استمرار السيطرة على مقاليد الأمور في تونس" و"التلاعب بالحريات" في البلد العربي المأزوم.
يأتي هذا في ظل أزمة سياسية خانقة تشهدها تونس، منذ 25 يوليو 2021، حين بدأ سعيد فرض إجراءات استثنائية منها إقالة الحكومة وحل البرلمان ومجلس القضاء وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية.
ويقول مراقبون إن هذا القرار يخالف تعهدات سابقة أطلقها سعيد بعدم المساس بالسلطة القضائية، مؤكدين أن اتهام القضاء المقالين من مهامهم بالفساد لا يستند على أدلة ويعد اتهاما سياسيا.
بالمقابل، أوضح الرئيس قيس سعيد، في خطاب متلفز الأربعاء، أن الاتهامات الموجهة للقضاة المقالين هي "تعطيل تتبع التحقيق في ملفات المتهمين بالإرهاب، وعدم الحياد وتجاوز الصلاحيات وتوجيه التحقيقات".
ونفى سعيد أن يكون قراره تدخلًا في عمل القضاء، قائلًا "لا نتدخل أبدا في القضاء، ونرفض أي تدخل مهما كان مصدره، ولن نقبل أي تطاول على القضاة الشرفاء، ولا أي تجاوز للقانون".
واستبق سعيد قرار إقالة الـ57 قاضيًا، بإصدار مرسوم ينص على أن "رئيس الجمهورية يمكنه إصدار أمر رئاسي يقضي بإعفاء كل قاضٍ تعلّق به ما من شأنه أن يمس من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حسن سيره".
وحصن المرسوم قرارات الرئيس بإعفاء القضاة نسبيًا، بالنص على أنه "لا يمكن الطعن في الأمر الرئاسي المتعلق بإعفاء قاضٍ إلا بعد صدور حكم جزائي بات في الأفعال المنسوبة إليه".
وهذه ليست المعركة الأولى، التي يخوضها سعيد مع القضاة، فقد خاض معركة سابقة مع المجلس الأعلى للقضاء، في فبراير الماضي بقرار عزل مجلس القضاء وتشكيل المجلس الأعلى المؤقت، وهو ما أثار جملة انتقادات آنذاك.
والمجلس الأعلى للقضاء، هو هيئة دستورية مستقلة، بمثابة الضامن الرئيسي لاستقلال القضاء التونسي منذ الثورة التونسية في ديسمبر 2010.
الخلاص الوطني
بدوره قال القاضي محمد علي البرهومي، أحد القضاة المقالين عبر حسابه على "فيسبوك": "ذهبت إلى وزارة العدل طالبًا الحماية من مسؤول قضائي، فوجدت نفسي مذيلا بقائمة الإعفاءات".
وأضاف البرهومي: "لم يتم التحقيق معي في أي ملف فساد طيلة مسيرتي، وأتحدى أيا كان أن يبرهن عكس ذلك وعلى الملأ.. قضاة الشعب دائما يدفعون الضريبة".
وأكد الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل (أكبر نقابة عمالية في البلاد) نور الدين الطبوبي، أن الاتحاد سيتحمل مسؤوليته الكاملة للدفاع عن دولة القانون والمؤسسات القضائية.
وقال الطبوبي في بيان الخميس، "نرفض الزج بالقضاء والأمن في الصراعات السياسية في تونس، وندعو إلى النأي بالمؤسستين عن الأحداث السياسية".
وتأتي تلك التطورات لتلقي بظلالها على دعوة رئاسية للحوار الوطني، أثارت جدلا واسعا إذ قوبلت من بعض القوى السياسية والمنظمات المجتمعية بالرفض، معتبرين إياها "إقصائية وذات أجندة أحادية".
من جانبه قال جمال حسين، عضو جبهة الخلاص الوطني المعارضة لـ"جسور بوست"، إن قرار سعيد بإعفاء 57 قاضيا من مناصبهم، يستند على شبهات وليست أدلة، إذ لم تُجرَ أي تحقيقات نزيهة بشأن الاتهامات الموجهة إليهم.
وأضاف حسين أن "الاتهامات الموجهة للقضاء المقالين سياسية، والهدف منها توصيل رسالة بأن مرفق القضاء يحتاج تدخلات من السلطة التنفيذية لتطهيره، وهذه رسالة خطيرة تفتح الباب أمام تدخلات أكبر في المستقبل".
وأوضح أن "قيس سعيد يريد أن يكون الحاكم الأوحد لكل شيء في تونس، والأوضاع السياسية تزداد تأزما يومًا بعد الآخر، فالأزمة الحالية مسؤول عنها الرئيس العنيد، الذي يؤسس لديكتاتورية الفرد".
وتابع: "سعيد يفاجئ الشعب التونسي كل يوم بقرارات تستهدف تعزيز سيطرته على الحكم بشكل أكبر، وهناك 10 قوى سياسية معارضة شكلت جبهة باسم (الخلاص الوطني) لإجراء حوار ينقذ البلاد".
وتضم جبهة "الخلاص الوطني" حركة النهضة وحزبي "الأمل" و"قلب تونس" ومبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، وتيارات سياسية أخرى.
تصعيد وتخبط
بدوره قال الناشط السياسي والحقوقي رمزي شيباني لـ"جسور بوست"، إن قرار عزل القضاة يضيف بعدًا جديدا للأزمة في تونس، سيزيد حالة العداء بين الرئيس قيس سعيد وجميع فئات الشعب.
وأضاف شيباني أن "استمرار الأزمة السياسية وانشغال الرئيس باستكمال السيطرة على الحكم باستبعاد الجميع من دائرة صنع القرار، يعزز من الأزمة الاقتصادية التي نعاني منها ويُدخل تونس في دوامة لا تنتهي".
ويرى شيباني أن استمرار الرئيس في التصعيد ضد الجميع، يوحي بالتخبط والارتباك والفشل في إدارة الأمور سياسيًا واقتصاديًا.
وأكد أن تونس تعيش الآن دون مؤسسات، حيث يدير الرئيس وحده كل الأمور، دون أن يأخذ في اعتباره أي رفض سياسي أو شعبي لقراراته الأحادية.
وأشار إلى أن الشعب التونسي كان يبني آمالًا على وعود الرئيس بتحسين الأحوال السياسية والاقتصادية، لذلك وجد سعيد دعمًا شعبيًا في قرارات 25 يوليو الماضي، لكن هذا الدعم سرعان ما تم فقدانه على وقع تطورات الأحداث.
وقال شيباني: "أتوقع أن ذكرى مرور عام على قرارات سعيد الاستثنائية ستحل على البلاد والشارع في حالة غليان على أثر تصاعد الأزمة السياسية مع تردي الأوضاع الاقتصادية".
وتعتبر قوى تونسية أن هذه الإجراءات تمثل "انقلابا على الدستور"، بينما ترى فيها قوى أخرى "تصحيحا لمسار ثورة 2011"، أما سعيد الذي تمتد فترة رئاسيته لعام 2024، فاعتبر أن إجراءاته "تدابير في إطار الدستور لحماية الدولة من خطر داهم".