مدينة النفط تغرق في العطش.. أزمة مياه تكشف جروح العراق العميقة

مدينة النفط تغرق في العطش.. أزمة مياه تكشف جروح العراق العميقة
أزمة الجفاف في العراق

في مفارقة مؤلمة، تعيش البصرة، أغنى مدن العراق بالنفط، عطشًا مزمنًا تحوّل إلى مأساة إنسانية تهدد ملايين البشر، إذ تمنح هذه المدينة وحدها البلاد ما يصل إلى أربعة ملايين برميل نفط يوميًا، لكنها تعجز عن توفير مياه صالحة للشرب لسكانها، هذه الأزمة، التي وصفتها المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة بأنها كارثة كبرى، ليست مجرد خلل إداري أو موسمي، بل نتيجة عقود من سوء الإدارة، وتغيرات مناخية، ونزاعات إقليمية معقدة حول مياه الأنهار.

أزمة مزمنة تتفاقم

بحسب تقديرات الأمم المتحدة وتقارير منظمات حقوقية محلية، يعاني أكثر من ثلاثة ملايين نسمة في البصرة من تراجع حاد في نوعية وكمية المياه الواصلة إليهم، وفي كل صيف، تتكرر مشاهد المستشفيات المكتظة بحالات التسمم نتيجة تلوث مياه الشرب بمستويات عالية من الملوحة والملوثات الكيميائية، خصوصًا في مناطق شط العرب، حيث تختلط مياه دجلة والفرات قبل أن تصب في الخليج.

هذه الكارثة لا تقتصر على الصحة العامة فقط، بل تهدد الزراعة وصيد الأسماك، وتعصف بمصادر رزق آلاف العائلات، وتزيد من معدلات الفقر والبطالة والهجرة الداخلية.

صرخات الأهالي بين الاحتجاج والتجاهل

خلال السنوات الأخيرة، شهدت البصرة موجات احتجاج شعبية واسعة للمطالبة بحل أزمة المياه، لكن تلك الاحتجاجات كثيراً ما جوبهت بردود رسمية ووعود مؤقتة دون تنفيذ حقيقي. واليوم، دعا مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة مجلس النواب العراقي لعقد جلسة مفتوحة في المدينة، كما حدث في قضايا أقل خطورة، من أجل وضع حلول عاجلة تضمن ماءً صالحًا للشرب لمواطني المحافظة المنكوبة.

ووفق المكتب، فإن هناك حلولًا مطروحة يمكن تنفيذها خلال أقل من شهر، طرحها خبراء المياه والاقتصاد، لكن البطء الإداري والتجاذبات السياسية تحول دون تحويل تلك المقترحات إلى واقع.

تاريخيًا، شكّل شط العرب شريان حياة البصرة، لكن منذ ثمانينات القرن الماضي، تراجعت تدفقات المياه العذبة بسبب بناء السدود في تركيا وإيران وسوريا، فضلًا عن سوء إدارة الموارد داخل العراق نفسه، وقد أدى ذلك إلى زيادة الملوحة في مياه شط العرب، حتى وصلت مستويات الكلوريد فيه في بعض الفترات إلى أكثر من 15 ألف جزء في المليون، وهو رقم يفوق بعشرات الأضعاف الحدود الآمنة الموصى بها دوليًا.

كما ساهم تجفيف الأهوار خلال التسعينات في إرباك النظام البيئي الطبيعي الذي كان يعمل كـ«فلتر» طبيعي يقلل من ملوحة المياه ويوفر بيئة زراعية خصبة.

أرقام تكشف حجم الكارثة

بحسب تقرير صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش"، تعرض ما لا يقل عن 118 ألف شخص في البصرة عام 2018 تعرض للتسمم بمياه الشرب الملوثة، وتشير تقديرات وزارة الموارد المائية العراقية إلى أن نسبة الملوحة في بعض مناطق البصرة باتت تتجاوز 70% من المياه المستهلكة، ما يهدد حياة السكان ويؤدي إلى تدهور الأراضي الزراعية وتحويل مساحات واسعة إلى أراضٍ قاحلة.

من جهة أخرى، أفادت تقارير أممية بأن العراق قد يفقد بحلول عام 2040 نحو 20% من موارده المائية نتيجة التغير المناخي، والطلب المتزايد، والتوسع العمراني غير المنظم.

تغيّر المناخ وتأثيراته القاسية

لم يعد تغيّر المناخ خطرًا نظريًا يُتداول في المؤتمرات الدولية، بل صار واقعًا يوميًا يثقل كاهل ملايين العراقيين، وخاصةً المحافظات الجنوبية مثل البصرة. فقد أضحى العراق اليوم أحد أكثر الدول هشاشةً أمام آثار تغيّر المناخ، بحسب تصنيفات البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

تجلّت هذه التداعيات في: تراجع خطير في معدلات الأمطار خلال العقدين الأخيرين بنسبة تُقدَّر بأكثر من 30% في بعض المناطق، وارتفاع درجات الحرارة التي كسرت حاجز الـ50 درجة مئوية في الصيف، ما يزيد من معدلات التبخر ويفاقم فقدان المياه من الأنهار والبحيرات وزيادة موجات الجفاف المتكررة التي تهدد الزراعة والأمن الغذائي، وتدفع مزيدًا من العائلات للنزوح من الأرياف إلى المدن.

تصحّر واسع؛ إذ تشير تقارير رسمية إلى أن نحو 39% من مساحة العراق مهدَّدة بالتصحر، ما يؤثر بشكل مباشر على إنتاجية الأراضي الزراعية ويزيد الاعتماد على استيراد الغذاء، وكذلك تمدّد اللسان الملحي في مناطق شط العرب بفعل انخفاض التدفقات العذبة وارتفاع مستوى البحر، ما يجعل المياه غير صالحة للشرب أو الري.

ولا يقف أثر تغيّر المناخ عند حدود البيئة؛ بل يمتد ليقوّض الاقتصاد، ويفاقم البطالة، ويغذي الهجرة الداخلية والصراعات المجتمعية على الموارد، فتغيّر المناخ أصبح اليوم عاملًا مضاعِفًا لمشكلات مزمنة في البنى التحتية وإدارة المياه، ويحوّل أزمات قابلة للإدارة إلى كوارث يصعب احتواؤها.

في المحصّلة، يمثل تغيّر المناخ اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة العراقية على التخطيط الاستراتيجي، ويفرض الحاجة العاجلة إلى سياسات تكيف فعّالة، تراعي العدالة المائية وحقوق الإنسان، قبل أن يصبح العطش مصيرًا دائمًا لا أزمة عابرة.

حلول ممكنة.. لكنّ الإرادة غائبة

يؤكد خبراء المياه وجود حلول تقنية قابلة للتنفيذ خلال فترة وجيزة، مثل إنشاء محطات تحلية إضافية على ساحل الخليج، أو مد خطوط أنابيب لتغذية البصرة بمياه أقل ملوحة من شمال العراق. كما تقترح دراسات أخرى إعادة تأهيل الأهوار وتفعيل مشاريع "الممر الأخضر" الذي يقلل من تأثير المدّ الملحي القادم من الخليج.

لكن هذه المشاريع تحتاج إلى تمويل حقيقي، ورؤية سياسية تضع حياة الناس فوق الحسابات الحزبية والطائفية، خصوصًا في ظل تداخل ملف المياه مع النزاعات الإقليمية بشأن حصص الأنهار.

حقوق الإنسان في قلب الأزمة

تؤكد المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، ومعها منظمات دولية مثل العفو الدولية، أن أزمة مياه البصرة انتهاك صارخ للحق في الحياة والصحة والسكن اللائق، وقد اعتبرت تقارير تلك المنظمات أن عدم توفير مياه صالحة للشرب في مدينة تنتج معظم ثروة العراق النفطية يشكل صورة صارخة لانعدام العدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروات.

وتطالب هذه المنظمات الحكومة العراقية بإعلان حالة الطوارئ البيئية في البصرة، وتنفيذ خطة عاجلة لمواجهة الكارثة، وإشراك المجتمع المدني والخبراء في رسم الحلول.

وجع إنساني يتجاوز الأرقام

وراء كل رقم هناك قصة إنسانية؛ ففي أحياء مثل حي الحسن والمعقل، تحكي الأسر عن معاناة يومية لجلب مياه الشرب من الصهاريج بتكاليف باهظة مقارنة بمستوى الدخل، بينما يضطر كثيرون لاستخدام مياه مالحة في الاستحمام والطبخ، ما يؤدي إلى مشاكل صحية مزمنة، خصوصًا بين الأطفال وكبار السن.

هذه القصص تكشف هشاشة حياة ملايين العراقيين، وتفضح عمق الفجوة بين غنى الموارد الطبيعية وفقر الخدمات الأساسية.

أزمة المياه مرآة لأزمات أعمق

أزمة البصرة هي في جوهرها انعكاس لتحديات العراق الكبرى: سوء الإدارة، الفساد، النزاعات السياسية، وانعدام التخطيط طويل الأمد، إنها أزمة تُذكّر العراقيين يوميًا بأن الأمن المائي جزء لا يتجزأ من الأمن الوطني، وأن تجاهلها ليس مجرد تقصير إداري، بل تهديد مباشر لحياة الناس واستقرار البلاد.

بين صرخات الأمهات ودموع الأطفال، تتحول أزمة المياه في البصرة من مجرد ملف فني إلى جرح وطني مفتوح، جرحٌ يكشف هشاشة الدولة أمام أبسط حقوق الإنسان وهو الحق في شربة ماء نظيفة.. فهل تتحرك السلطات لتعيد الحياة إلى مدينة أعطت العراق الكثير ولم تأخذ سوى الظمأ؟

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية