بين الصين والدول النامية.. "إجماع ساو باولو" يرسم خارطة طريق جديدة لحقوق الإنسان

بين الصين والدول النامية.. "إجماع ساو باولو" يرسم خارطة طريق جديدة لحقوق الإنسان
جانب من فعاليات اجتماع ساو باولو

يقف عالمنا اليوم على مفترق طرق خطير، حيث تتعاظم التوترات الجيوسياسية وتتجدد مساعي الهيمنة الأحادية، في حين تلوح في الأفق تحديات عالمية معقدة. وفي هذا المشهد المضطرب، تواجه حماية حقوق الإنسان امتحانات غير مسبوقة، تُلقي بظلالها على كرامة الإنسان وحرياته الأساسية في كل زاوية من الكوكب، فبينما تتصاعد النزاعات وتتفكك الروابط، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا.. كيف نحمي هذه الحقوق العالمية في عالمٍ تتصاعد فيه الانقسامات؟

في ظل هذه الخلفية المقلقة، انبثق صوتٌ جديد من قلب الجنوب العالمي. ففي ساو باولو، اجتمعت المائدة المستديرة الثانية بين الصين ودول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي حول حقوق الإنسان، لتُخرج للعالم وثيقةً قويةً تحمل اسم "توافق ساو باولو بشأن التواصل والتعاون في مجال حقوق الإنسان بين الصين ودول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي". 

هذه الوثيقة، التي ضمت ممثلين من 20 دولة، ليست مجرد بيان سياسي؛ إنها تعبيرٌ عن رؤيةٍ عميقة وتعاونية للنهوض بحقوق الإنسان، متجذرة في وجهات نظر وأولويات بلدان الجنوب العالمي، التي غالبًا ما تُهمل أصواتها في المحافل الدولية.

رؤية مختلفة لحقوق الإنسان

يبدأ "إجماع ساو باولو" بإعادة تأكيد مبدأٍ أساسي، غالبًا ما يُهمش في الخطاب السائد: حقوق الإنسان تتميز بالعالمية والخصوصية، هذا ليس تناقضًا، بل هو دعوة لفهم أعمق. فبينما تُعد مبادئ الكرامة والمساواة حقوقًا عالمية لكل إنسان.

ويؤكد التوافق بشكل قاطع أن مسار كل دولة في مجال حقوق الإنسان يجب أن يرتكز على "تاريخها وثقافتها ومرحلة تطورها" الفريدة، هذا ليس رفضًا للمُثل العالمية، بل إصرارٌ قويٌّ على أن نماذج الحماية الفعّالة لا يمكن أن تُفرض من الخارج، بل يجب أن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياقات الوطنية، مع احترام التنوع الثقافي والتاريخي.

والأهم من ذلك، أن الإجماع يُناصر التعزيز المتكامل لجميع الحقوق المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، بما يضمن التمتع بها على قدم المساواة بين جميع الفئات الاجتماعية، هذه النظرة الشمولية تختلف عن التركيز التقليدي الذي غالبًا ما يضع الحقوق المدنية والسياسية في المقدمة، فما هو أساس هذا التقدم الشامل؟ يجيب التوافق بوضوح: بيئة سلمية مستقرة وظروف اجتماعية واقتصادية متينة، وهذا يتطلب إزالة جميع العقبات التي تعترض النهوض بحقوق الإنسان، بدءاً من النزاعات وصولاً إلى الفقر والتهميش.

تكنولوجيا بلا حدود وعدالة بيئية

يتجاوز "إجماع ساو باولو" الأسس الفلسفية، إذ يُعالج التحديات الحديثة المُلحّة بشكلٍ مباشر، مسلطًا الضوء على قضايا العصر الرقمي وأزمة المناخ.

يُقر التوافق بـالسلاح ذي الحدين للتكنولوجيا، ولا سيما التقدم الرقمي والذكاء الاصطناعي، فبينما تُتيح هذه التقنيات إمكاناتٍ هائلة لتعزيز “رفاهية الإنسان وكرامته وحريته”، تُخاطر في الوقت نفسه بتفاقم أوجه عدم المساواة إذا ما تركزت فوائدها "في أيدي قلة"، الحل المُقترح متعدد الأوجه يشمل بناء القدرات الرقمية العالمية، وتعزيز الثقافة الرقمية العامة.

والأهم من ذلك، إرساء معايير أخلاقية دولية للذكاء الاصطناعي بهدف تسخير التكنولوجيا لما فيه الخير ومنع أزمات حقوق الإنسان الجديدة التي قد تنشأ عن الفجوة الرقمية أو استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق غير أخلاقية.

حق الحياة والنمو المستدام

تُعتبر العدالة البيئية قضيةً أساسيةً من قضايا حقوق الإنسان ضمن هذا التوافق. وإذ يُعلن "بيئةً بيئيةً سليمةً" بأنها "الأكثر شمولاً لرفاهية الشعوب"، فإنه يربط مباشرةً بين تغير المناخ والتلوث وبين الحق في العيش والتنمية، يدعو هذا إلى نموٍّ اقتصاديٍّ أخضر عالي الجودة، يُفيد الأجيال الحالية والمستقبلية على حدٍّ سواء، إلى جانب حوكمةٍ تعاونية تضمن وصول المنافع البيئية إلى الجميع، وخاصةً الفقراء والضعفاء الذين يتأثرون بشكل أكبر بالكوارث البيئية وتلوث البيئة. 

ومن الجدير بالذكر أن هذا التوافق يُطالب بالاعتراف بالاحتياجات المزدوجة لدول الجنوب العالمي: الحق في التنمية الاقتصادية مع حماية بيئتها، وصياغة خططٍ مناخيةٍ مبنيةٍ على "مراحل نموها وقدراتها" الخاصة، بدلاً من فرض حلول موحدة لا تتناسب مع واقعها.

التعاون أساس لمجتمع مشترك

يتمحور "توافق ساو باولو" في جوهره حول العمل والتعاون، فهو يُؤيد "التعاون من أجل التنمية، وتعزيز حقوق الإنسان من خلال التنمية"؛ سبيلاً لبناء مجتمعٍ حقيقيٍّ بين الصين وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي بمستقبلٍ مشترك، ويجب أن يُعطي التعاون الاقتصادي والصناعي الأولوية لحماية حقوق الإنسان، وصون حقوق العمال، لضمان أن التنمية لا تأتي على حساب الكرامة الإنسانية.

وتشمل المجالات الرئيسية لتكثيف التعاون الحد من الفقر، والتنمية الخضراء، والابتكار العلمي، مدعومةً بتبادلاتٍ ثقافية وأكاديميةٍ قوية تُعزز التفاهم المتبادل.

وأخيرًا، يُدين إجماع ساو باولو بشدة تسييس حقوق الإنسان، فهو يدعو إلى "تعددية أطراف حقيقية" ويطالب بـ"حوكمة عالمية لحقوق الإنسان أكثر عدلًا وإنصافًا وعقلانية وشمولًا"، ويعارض صراحةً استخدام حقوق الإنسان ذريعةً للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ويؤكد مجددًا الدور المحوري للأمم المتحدة، ولاسيما مجلس حقوق الإنسان، باعتباره المنصة الأساسية للحوكمة العالمية التي يجب أن تُشكل صوتًا للجميع، لا لأقلية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية