قرغيزستان على مفترق طرق.. قوانين جديدة تُهدد حقوق الإنسان وتقمع الحريات
قرغيزستان على مفترق طرق.. قوانين جديدة تُهدد حقوق الإنسان وتقمع الحريات
في قلب جبال تيان شان الشامخة، حيث تلتقي الجغرافيا بسحرها مع التاريخ المضطرب، تجد قرغيزستان نفسها اليوم أمام لحظة فارقة في مسيرتها الديمقراطية، فبعد سنوات من الكفاح لتعزيز دولة القانون وحرية التعبير، تهدد مشروعات قوانين أقرها البرلمان مؤخرًا بتقويض مكاسب تحققت بشق الأنفس، وسط مخاوف متصاعدة من تحول تدريجي نحو التضييق والقمع.
ويُعدّ القرار بحل المركز الوطني لمنع التعذيب (NCPT) ودمج صلاحياته في مكتب أمين المظالم في قرغيزستان خطوة مثيرة للقلق، فهذا المركز الذي تأسس تنفيذًا للبروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب (OPCAT) كان يُشكل خط الدفاع الأول ضد التعذيب وسوء المعاملة في أماكن الاحتجاز، حيث كان يراقب أوضاع السجون، ويرفع تقارير مستقلة أسهمت في كشف انتهاكات وتحسين الظروف.
لكن المفارقة المقلقة أن هذا القرار جاء في المرحلة النهائية من دراسة مشروع قانون خاص بمكتب أمين المظالم، دون إجراء مشاورات كافية مع المجتمع المدني أو إتاحة نقاش عام، ما يتعارض مع مبادئ الشفافية التي تُعد حجر الزاوية في العمل الديمقراطي.
وتقول منظمات دولية مثل العفو الدولية، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT)، ولجنة هلسنكي النرويجية، إن هذه الخطوة تُعرض جهودًا استمرت أكثر من عقد للخطر، إذ إن الغموض حول كيفية قيام مكتب أمين المظالم بمسؤوليات المركز، يُنذر بتحويل هذه المهمة الحساسة إلى دور رمزي بلا تأثير حقيقي، وهو ما يفتح الباب لعودة التعذيب كأداة للقمع.
هجوم تشريعي على الإعلام
على الجبهة الأخرى، صادق البرلمان القرغيزي أيضًا على مشروع قانون جديد للإعلام يمنح السلطات صلاحيات شبه مطلقة رفض تسجيل وسائل الإعلام، وإغلاقها دون رقابة قضائية، بل وحتى التضييق على عملها بحجج فضفاضة مثل "تقويض السلطات".
ما يزيد القلق أن هذه النسخة الجديدة من القانون تختلف عن مسودة سابقة تم إعدادها بالتشاور مع المجتمع الإعلامي، إذ أُعيدت إليها نصوص مثيرة للجدل سبق واستُبعدت، ما يكشف عن رغبة حقيقية لتقليص مساحة حرية التعبير.
تتجلى خطورة هذا الاتجاه في قضايا حديثة مثل الحكم بالسجن مع وقف التنفيذ على الصحفية كانيشاي ماميركولوفا بسبب منشوراتها المنتقدة للحكومة على فيسبوك، واستدعاء صحفيين من قناة "أبريل تي في" المستقلة للتحقيق، إضافة إلى مساعي المدعين العامين لوقف أنشطتها الإعلامية متهمين إياها بـ"السخرية" و"تعبيرات الوجه" التي تُفهم على أنها نقد للسلطات.
أزمة حقوقية متعددة الأبعاد
لا تقتصر مخاطر هذه القوانين على الصحفيين أو المدافعين عن حقوق الإنسان وحدهم، بل تُهدد بنية المجتمع الديمقراطي بأسره فبحسب مراقبين فإن تفكيك نظام الرقابة المستقلة من خلال حل المركز الوطني لمنع التعذيب يفتح المجال لحدوث انتهاكات جسيمة في أماكن الاحتجاز دون خوف من المساءلة.
كما أن تقويض الشفافية من خلال التضييق على الإعلام المستقل يُفقر النقاش العام، ويُحرم المواطنين من المعلومات الضرورية لاتخاذ قرارات مستنيرة، إضافة إلى تراجع ثقة المجتمع الدولي، فقرغيزستان التي كانت تُعد نموذجًا نسبيًا للتعددية السياسية في آسيا الوسطى، باتت تُواجه انتقادات متزايدة، ما قد يؤثر على علاقاتها الدولية.
مواقف وإدانات دولية
جاءت ردود الفعل الدولية سريعة وحادة، فقد أصدرت الشراكة الدولية لحقوق الإنسان (IPHR) والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT)، وهيومن رايتس ووتش، والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان (FIDH)، ولجنة حماية الصحفيين، والعديد من المنظمات الأخرى بيانات تدعو الرئيس صدر جباروف إلى عدم التوقيع على هذه القوانين وإعادتها للبرلمان لإعادة النظر فيها.
كما نبهت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مرارًا إلى أن حماية آليات الرقابة المستقلة وحرية الإعلام ليست ترفًا ديمقراطيًا بل التزام قانوني على الدول، وأن التفريط فيه يُهدد كرامة الإنسان وحقه في الحماية من الانتهاكات.
دولة في حالة شد وجذب
استقلت قرغيزستان عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وسرعان ما شهدت تحولات سياسية كبرى شملت ثورتين في 2005 و2010 أطاحتا بحكومتين، وسط آمال واسعة في بناء ديمقراطية حقيقية.
لكن هذه الآمال صُدمت بعقبات بنيوية أبرزها الفساد، ونزاعات حدودية مع طاجيكستان، وتوترات إثنية، ومنذ عام 2020، وبعد تولي جباروف السلطة، حذرت منظمات حقوقية من توجه متزايد لتقييد عمل المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام المستقلة.
بحسب تقارير دولية، شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا في قضايا التشهير ضد صحفيين ونشطاء، فضلًا عن تضييق على منظمات المجتمع المدني التي تتلقى تمويلًا خارجيًا.
مؤشرات مقلقة
رغم غياب أرقام رسمية دقيقة عن عدد المتضررين من القوانين الجديدة، تُشير تقارير حرية الصحافة الصادرة عن "مراسلون بلا حدود" إلى تراجع تصنيف قرغيزستان من المرتبة الـ83 عام 2020 إلى 122 عام 2024، كما وثقت هيومن رايتس ووتش زيادة في حالات الاستدعاء الأمني للصحفيين واستهداف وسائل الإعلام المستقلة.
بينما تترقب الأوساط الحقوقية توقيع الرئيس صدر جباروف على القوانين أو إعادتها للبرلمان، يبقى الأمل قائمًا في تحرك حقيقي لتعديل هذه النصوص وفق مبادئ الشفافية والمشاركة المجتمعية.