حين يصبح التأبين جريمة.. اعتقال نرجس محمدي في إيران يشعل الغضب الحقوقي

حين يصبح التأبين جريمة.. اعتقال نرجس محمدي في إيران يشعل الغضب الحقوقي
نرجس محمدي - أرشيف

في مشهد يعكس عمق التوتر بين السلطة الإيرانية وأصواتها المنتقدة، تحولت مراسم تأبين صامتة إلى ساحة مواجهة عنيفة انتهت باعتقال الناشطة نرجس محمدي، الحائزة جائزة نوبل للسلام لعام 2023، رفقة ثمانية نشطاء آخرين على الأقل، جرت الواقعة يوم الجمعة في مدينة مشهد شرق إيران.

وأعادت تسليط الضوء على واقع الحريات العامة في البلاد، وعلى الثمن الذي يدفعه المدافعون عن حقوق الإنسان لمجرد حضورهم فعالية إنسانية تهدف إلى إحياء ذكرى محام راحل.

كانت نرجس محمدي من بين الحاضرين لإحياء ذكرى مرور أسبوع على وفاة المحامي خسرو علي كردي، الذي عثر عليه ميتاً في مكتبه في وقت سابق من شهر ديسمبر.

حضور محمدي وعدد من النشطاء جاء وفق ما أعلنت المؤسسة التي تدافع عنها، بدافع إظهار الاحترام والتضامن مع عائلة محام عرف بدفاعه عن معتقلين في قضايا سياسية حساسة، غير أن قوات الأمن تدخلت بعنف، وأوقفت محمدي وناشطين آخرين، في خطوة وصفتها المؤسسة بأنها انتهاك صارخ وخطر للحريات الأساسية وحقوق الإنسان.

لم يقتصر الأمر على الاعتقال، بل رافقه عنف جسدي أثار صدمة واسعة، وقال شقيقها حميد محمدي المقيم في أوسلو إن شقيقته نرجس تعرضت للضرب على ساقيها وجرها عناصر الأمن من شعرها أمام الحضور، وهذه الرواية، التي تناقلتها وسائل إعلام دولية، زادت من حدة الانتقادات الموجهة إلى السلطات، خاصة في ظل الوضع الصحي الحرج الذي تعانيه محمدي منذ سنوات.

نشطاء في دائرة الاستهداف

من بين الموقوفين في مراسم التأبين الناشطة البارزة سيبيده قليان، التي سبق أن سُجنت مع نرجس محمدي في سجن إوين بطهران، وعزز وجود أسماء معروفة في مجال حقوق الإنسان بين المعتقلين الانطباع بأن ما جرى لم يكن إجراءً أمنياً عابراً، بل رسالة واضحة لكل من يصر على التعبير عن التضامن أو المشاركة في فعاليات تحمل بعداً سياسياً أو حقوقياً، حتى لو جاءت في إطار إنساني بحت.

مقاطع الفيديو التي نشرتها وكالة أنباء نشطاء حقوق الإنسان هرانا أظهرت محمدي وهي تشارك في مراسم الذكرى من دون ارتداء الحجاب الإلزامي، وسط حشد من المؤيدين.

وهتف الحضور بشعارات مثل "تحيا إيران" و"نقاتل نموت لا نقبل الإهانة" و"الموت للديكتاتور"، وفي لقطات أخرى بثتها قنوات فارسية من خارج إيران، ظهرت محمدي وهي تعتلي سيارة مزودة بميكروفون، تدعو الناس إلى ترديد الشعارات، في مشهد يعكس تحديا علنيا للسلطة.

تبرير رسمي وانتقادات حقوقية

في المقابل، نقلت وكالة مهر الإيرانية عن محافظ مشهد حسن حسيني قوله إن الأشخاص المعنيين أوقفوا بعد تردادهم شعارات اعتبرت مخالفة للأعراف العامة، من دون أن يذكر أسماء المعتقلين، هذا التبرير الرسمي قوبل بتشكيك واسع من منظمات حقوقية رأت فيه محاولة لتجريم التعبير السلمي وتبرير استخدام القوة ضد نشطاء معروفين بسجلهم الحقوقي.

لجنة جائزة نوبل النروجية سارعت إلى التنديد بالتوقيف العنيف لنرجس محمدي، وطالبت بالإفراج غير المشروط عنها، وفي بيان لافت، أشارت اللجنة إلى أن الاعتقال جاء في توقيت حساس، تزامن مع تسليم جائزة نوبل للسلام لزعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، معتبرة أن ما حدث يعكس طبيعة التعاون السياسي بين أنظمة لا تتسامح مع المعارضة.

نرجس محمدي، البالغة 53 عاماً، ليست جديدة على السجون. فقد أمضت معظم العقد الماضي خلف القضبان، بعد اعتقالها مرات عدة، كان آخرها في نوفمبر 2021، وفي عام 2023، تسلم نجلاها التوأمان جائزة نوبل للسلام في أوسلو نيابة عنها، بعد أن مضى 11 عاما من دون أن تراهما، وفي رسالة مؤثرة كتبتها الشهر الماضي بمناسبة عيد ميلادهما التاسع عشر، قالت إنها منعت نهائيا من مغادرة إيران.

رغم الإفراج المؤقت عنها في ديسمبر 2024 لأسباب صحية، واصلَت محمدي نشاطها الحقوقي من خارج السجن، رفضت ارتداء الحجاب، وخاطبت حضوراً أجنبياً عبر مؤتمرات الفيديو، والتقت ناشطين في مختلف أنحاء البلاد. هذا الحضور المستمر جعل أنصارها يحذرون مرارا من احتمال إعادة اعتقالها في أي وقت، وهو ما تحقق بالفعل خلال مراسم التأبين.

معاناة صحية متفاقمة

شقيقها حميد أكد أن محمدي عانت مشاكل صحية كثيرة في السجن، شملت الرئتين والقلب، وخضعت لعمليات عدة، وقال إنه لا يقلق من الاعتقال بحد ذاته لأنها اعتُقلت مرارا، لكن ما يقلقه أكثر هو الضغوط المتواصلة على وضعها الجسدي والنفسي، في ظل ظروف احتجاز قاسية وعدم مراعاة حالتها الصحية.

يذكر أن فوز نرجس محمدي بجائزة نوبل للسلام عام 2023 جاء تقديراً لنضالها المستمر منذ عقدين من أجل حقوق الإنسان في إيران، ودعمها القوي لاحتجاجات 2022 و2023 التي اندلعت عقب وفاة الشابة الكردية مهسا أميني أثناء احتجازها، وتلك الاحتجاجات طالبت بحرية اللباس للمرأة ورفعت مطالب سياسية أوسع، قبل أن تواجه حملة قمع شديدة أدانتها الأوساط الدولية، وأسفرت عن اعتقالات واسعة وأحكام قاسية.

يمثل اعتقال نرجس محمدي في مشهد حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المواجهات بين السلطات الإيرانية والحركة الحقوقية، المحامي خسرو علي كردي، الذي أقيمت مراسم تأبينه، كان معروفاً بتوليه قضايا معتقلين على خلفية احتجاجات 2022، ووفاته في 5 ديسمبر أثارت دعوات لتحقيق مستقل بعد أن اعتبرت منظمات حقوقية أن ظروفها تثير شبهات خطرة بإمكانية تورط الدولة.

وفي هذا السياق، تأتي واقعة الاعتقال لتؤكد استمرار النهج الأمني في التعامل مع أي تجمع أو نشاط يحمل رمزية سياسية أو حقوقية، حتى وإن اتخذ شكل تأبين، ما يعمق القطيعة بين الدولة وشرائح واسعة من المجتمع، ويجعل من قضية نرجس محمدي عنوانا بارزا لصراع مفتوح بين السلطة وأصوات تطالب بالكرامة والحرية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية