بين التجويع وحصار غزة.. المجاعة تكشف انهيار الضمير الدولي
دراسة من أربعينيات القرن الماضي
"هل ستجوع ليحصل الآخرون على تغذية أفضل؟".. كان هذا هو الشعار الذي رفعه عالم الفسيولوجيا الأمريكي، أنسيل كيز، حين بدأ في أربعينيات القرن الماضي واحدة من أكثر التجارب العلمية جرأة في تاريخ الطب البشري.
في قلب جامعة مينيسوتا، قام كيز ومعه عالم النفس جوزيف بروزيك بدراسة غير مسبوقة على 36 متطوعًا، جميعهم رجال أصحاء اختاروا أن يمروا طوعًا بتجربة الجوع المراقب، من أجل مساعدة البشرية على فهم آثاره الجسدية والنفسية والاجتماعية.
لم تكن تجربة كيز، التي نُشرت نتائجها لاحقًا في كتاب "بيولوجيا الجوع البشري" عام 1950، مجرد استكشاف علمي، بل كانت إعلانًا مبكرًا أن الجوع ليس فقط معاناة بيولوجية، بل ظاهرة اجتماعية نفسية سياسية عميقة التأثير، واليوم، وبعد مرور أكثر من سبعين عامًا، تُستدعى هذه التجربة من أرشيف التاريخ العلمي لتُقارن بواقعٍ أكثر إيلامًا: غزة تقف على شفا المجاعة الجماعية، وسط عجز دولي، وتواطؤ سياسي، وتكرار فجّ لاستخدام الغذاء كسلاح في صراعات العصر الحديث.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة فايننشيال تايمز، الثلاثاء، فإن غزة المحاصرة، "تنزلق تدريجيًا نحو مجاعة شاملة"، وسط تقارير أممية عن وفاة ما لا يقل عن 16 طفلًا جراء سوء التغذية الحاد، ومعالجة أكثر من 20 ألف طفل في حالات طبية متدهورة.
نقل التقرير عن وحدة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، وهي هيئة مدعومة من الأمم المتحدة، أن مستويات الجوع وسوء التغذية تفوق القدرة على التوثيق الدقيق، نظرًا لانهيار أنظمة الرعاية الصحية وتقييد حركة المساعدات.
وبدورها وصفت "الغارديان" الوضع في غزة بأنه "أسوأ حالة مجاعة من صنع الإنسان يشهدها العالم في القرن الحادي والعشرين"، ورغم التقديرات المتفائلة التي تشير إلى أن بعض شحنات المساعدات دخلت عبر معبر كرم أبو سالم خلال الأشهر الماضية، فإن الحقيقة تبقى أن الوصول إلى الغذاء لا يزال محددًا ومقيدًا بشكل تعسفي، ما يدفع مراقبين حقوقيين إلى اعتبار ما يجري جريمة حرب متكاملة الأركان.
علم الجوع والحقوق الأساسية
حين أجرى كيز تجربته في 1944، كان هدفه معرفة كيف يتفاعل الجسم البشري مع الحرمان الغذائي، وكيف يُمكن إعادة تغذيته دون ضرر، المتطوعون، الذين خُفّضت حصصهم اليومية إلى أقل من 1600 سعرة حرارية، سرعان ما فقدوا ربع أوزانهم، و40% من كتلة عضلاتهم، وعانوا من الاكتئاب والانطواء واضطرابات النوم، والوساوس، وتغير الشخصية، والانهيار العاطفي، وحتى محاولات إيذاء النفس.
وأثبتت التجربة أن الجوع ليس فقط حالة جسدية، بل يُهاجم كرامة الإنسان، ووعيه، وقدرته على اتخاذ القرار، والأخطر، كما أوضحت الدراسة، أن مرحلة "إعادة التغذية" كانت أشد من الجوع ذاته، إذ لم يتمكن المشاركون من ضبط شهيتهم، وعانى كثير منهم من الإفراط في الأكل وصولًا إلى التقيؤ.
اليوم، وفي ضوء هذه الحقائق، تؤكد "التايمز" البريطانية أن ما يعيشه المدنيون في غزة ليس فقط مجاعة، بل انهيار شامل لمنظومة الحياة الإنسانية، الأطفال الذين لا يتلقون الحد الأدنى من السعرات الحرارية، النساء الحوامل اللاتي يلدن دون غذاء، والأسر التي تأكل الأعشاب أو أوراق الشجر للبقاء، كلهم ليسوا ضحايا فشل إنساني، بل ضحايا سياسات عقابية ممنهجة.
الجوع كسلاح في الصراعات
بحسب القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، يُمنع استخدام "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال"، ويُعتبر تدمير مصادر الغذاء أو عرقلة وصول المساعدات الغذائية جريمة حرب.
وفي هذا السياق، فإن الإجراءات التي تتخذها إسرائيل -وفقًا لتقارير متعددة- والتي تشمل تقليص دخول الشاحنات، واستهداف منشآت تخزين الغذاء، وتأخير أو رفض التصاريح، تُشكل، بحسب خبراء حقوقيين، ممارسة ممنهجة للتجويع المتعمد.
وأشارت "فايننشيال تايمز" إلى أن المنظمات الإنسانية الدولية لا تزال تُواجه صعوبات شديدة في إدخال الغذاء إلى شمال قطاع غزة، حيث تقطن آلاف الأسر في مخيمات عشوائية بلا ماء أو كهرباء، وتُضيف أن ما يجري "يتجاوز الفشل اللوجستي أو سوء التنسيق"، ليتحول إلى شكل من أشكال "العقاب الجماعي"، في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف وللقانون الدولي الإنساني.
الأطفال أول الضحايا
تشير الدراسات إلى أن الجوع، حين يصيب الأطفال، يُحدث آثارًا طويلة الأمد على الدماغ والجهاز العصبي والمناعة، وفي غزة، تقول "الغارديان" إن أكثر من نصف الأطفال يعانون من الهزال الحاد، ونسبة كبيرة منهم يواجهون صعوبة في المشي أو التحدث أو اللعب، هذه ليست فقط معاناة إنسانية، بل مجزرة صامتة ضد مستقبل شعبٍ بأكمله.
وبحسب ما نقله تقرير "التايمز"، فإن الأطفال المولودين لأمهات يعانين من الجوع المزمن يُظهرون لاحقًا قابلية أعلى للإصابة بالسمنة، والسكري، ومشاكل في الإدراك، ما يضع عبئًا إضافيًا على الأنظمة الصحية في المستقبل، وهذا ما يؤكده علميًا مفهوم "البرمجة الجنينية"، حيث يؤثر غذاء الأم بشكل دائم على بنية واستجابة جسم الطفل مدى الحياة.
وفي ختام دراسته، كتب أنسيل كيز أن "الديمقراطية وبناء الأمة لا يمكن أن ينجحا في مجتمع يعاني من الجوع"، هذه العبارة التي بدت آنذاك فلسفية، تُصبح اليوم أكثر واقعية ووضوحًا، فالجوع، حين يتحول إلى أداة سياسية، لا يفتك فقط بالجسد، بل يُفتت النسيج المجتمعي، ويُضعف مؤسسات الدولة، ويُولّد موجات من العنف، والتطرّف، والانهيار الاجتماعي.
استعرضت "فايننشيال تايمز" تقارير دولية تحذر من أن استمرار المجاعة في غزة، أو حتى تأخير معالجتها، سيُفضي إلى كارثة جيوسياسية في المنطقة، ويُعيد تشكيل ميزان القوى، ويفتح الباب أمام انزلاقات خطيرة.
أثر الجوع على السلوك والقرار
جدير بالذكر أن تجربة كيز، رغم مرور عقود عليها، لا تزال تُستخدم اليوم في علاج اضطرابات الأكل، وفهم متلازمة إعادة التغذية، وتقدير أثر الجوع على السلوك والقرار، لكنها اليوم تُستخدم أيضًا كعدسة حقوقية لتفكيك ما يجري في غزة، إنها تقول لنا بصوت عالٍ: المجاعة ليست قضاءً وقدرًا، إنها نتيجة لقرارات سياسية، ويمكن منعها، ويمكن محاسبة مرتكبيها.
وتشير الدراسة إلى أن حق الإنسان في الغذاء ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان بقية الحقوق، من الصحة والتعليم إلى الأمن والكرامة، وما يحدث في غزة هو تجويع جماعي، وانتهاك صارخ لحق الشعوب في الحياة، ويستوجب تحقيقًا دوليًا لا بيان إدانة فحسب.










