أطفال الضفة الغربية.. جيل ينشأ وسط الخوف والحرمان من الأمان
أطفال الضفة الغربية.. جيل ينشأ وسط الخوف والحرمان من الأمان
في قلب الأراضي الفلسطينية المحتلة، يواجه الأطفال في الضفة الغربية –منها القدس الشرقية– واقعًا قاسيًا يتجاوز حدود الصراع العسكري التقليدي، ليشكّل أزمة حماية معقدة وممتدة. الأرقام المقلقة تكشف جزءًا من الصورة، بين أكتوبر 2023 ومايو 2025، قُتل 214 طفلًا، بزيادة بلغت 169% مقارنة بالفترة السابقة، وفقًا لتقارير أممية منشورة على موقع "ريليف ويب".
لكن ما وراء هذه الأرقام تكمن حكايات عن الطفولة المسروقة، وانعدام الأمان النفسي، وانهيار شبكات الحماية التقليدية.
ويتعرض الأطفال الفلسطينيون في الضفة الغربية لمزيج معقّد من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية الإسرائيلية، عنف المستوطنين، الاعتقالات المتكررة، والتهجير القسري، وتسببت الغارات الجوية –منها هجمات الطائرات بدون طيار– في نحو 20٪ من الوفيات الأخيرة بين الأطفال، في حين تتوزع بقية الضحايا بين الرصاص الحي والمواجهات المباشرة مع القوات الإسرائيلية أو اعتداءات المستوطنين.
تقرير حديث صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) يشير إلى أن النزوح القسري طال أكثر من 32,000 فلسطيني في شمال الضفة الغربية فقط، وخاصة في محافظتي جنين وطولكرم، والأطفال في هذه المناطق يجدون أنفسهم محاصرين بين هدم منازلهم وفقدان البيئة الآمنة والمدرسة، ما يزيد من هشاشتهم النفسية والاجتماعية.
انهيار للحماية النفسية
الضغوط النفسية التي يعاني منها هؤلاء الأطفال تفوق القدرة الطبيعية لأي طفل على التحمل وقد رصدت تقارير مشتركة صادرة عن اليونيسف ومنظمة إنقاذ الطفولة (Save the Children) ارتفاعًا ملحوظًا في أعراض القلق واضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب، وكانت الفئة العمرية الأكثر تأثرًا –بحسب التقرير– هي الفتيان من سن 7 إلى 12 عامًا، الذين أصبحوا يعبرون عن خوفهم بالانسحاب والصمت الطويل أو نوبات الغضب والعنف الذاتي.
وفي سياق متصل، أظهرت دراسة أجرتها جامعة بيرزيت عام 2024 أن نحو 70٪ من الأطفال في المناطق المتأثرة بالعنف اليومي يعانون درجات متفاوتة من اضطرابات النوم وكوابيس مرتبطة بمشاهد الهدم أو الاعتقال.
ومنذ بداية الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، كان الأطفال الفلسطينيون في الضفة الغربية جزءًا من واقع صراع طويل الأمد، لكن السنوات الأخيرة حملت سمات جديدة أشد قسوة، تمثلت في اتساع المستوطنات، ارتفاع وتيرة اقتحام المدن والمخيمات، وتصاعد هدم المنازل أدت إلى تراجع مساحات الأمان المتاحة للأطفال، الذين نشأ كثير منهم لا يعرفون سوى أصوات الرصاص والمواجهات.
وبحسب تقرير صادر عن مركز الدفاع عن الفرد "هموكيد" الإسرائيلي، ارتفع عدد أوامر هدم المنازل في الضفة بنسبة 35٪ بين عامي 2022 و2024، ما ضاعف حالات النزوح الداخلي وألقى بأعباء نفسية واجتماعية ثقيلة على الأسر والأطفال.
طفولة خلف القضبان
تقديرات منظمات حقوقية محلية مثل مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان تفيد بأن قوات الجيش الإسرائيلي تحتجز شهريًا نحو 40 إلى 50 قاصرًا فلسطينيًا، بعضهم دون سن 14 عامًا، وتوثق هذه المؤسسات شهادات صادمة لأطفال تعرضوا للتعذيب النفسي والجسدي أو انتُزع منهم الاعتراف تحت الإكراه.
"أكثر ما يخيفني كان أنني لا أعرف متى سأخرج"، عبارة قال فتى في السادسة عشرة من عمره اعتُقل في طولكرم تحمل الكثير، بحسب شهادة وثقتها "الضمير".. ويترك الحرمان من التعليم خلال فترة الاعتقال أثرًا طويل الأمد؛ فالكثير من هؤلاء الأطفال لا يعودون إلى مقاعد الدراسة بعد الإفراج عنهم، خوفًا من إعادة الاعتقال أو بسبب صدمات نفسية.
وفي السنوات الأخيرة، سجلت تقارير منظمات دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"بتسيلم" ارتفاعًا في اعتداءات المستوطنين ضد الفلسطينيين، بما في ذلك الاعتداء الجسدي المباشر على الأطفال، تدمير ممتلكاتهم أو تهديدهم في الطريق إلى المدرسة.
تقرير "أوتشا" الصادر في يوليو 2025 يوثق أكثر من 500 حادثة اعتداء من مستوطنين مسلحين ضد الفلسطينيين منذ بداية العام، بينهم أطفال أجبروا على ترك مدارسهم في المناطق القريبة من المستوطنات، ما أدى إلى تراجع نسبة الحضور المدرسي في بعض القرى بنحو 25٪.
جهود الإغاثة والتحديات المستمرة
وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية تبذل جهودًا مضنية لتقليل آثار الأزمة، من خلال تقديم الدعم النفسي والاجتماعي وتوزيع المواد الأساسية للعائلات المتضررة، و"اليونيسف" تدير مراكز دعم نفسي متنقلة، في حين تقدم "إنقاذ الطفولة" برامج توعية حول مواجهة التوتر والصدمات.
لكن الفجوة بين الاحتياجات المتزايدة والتمويل المتاح تتسع بشكل مقلق؛ حيث يشير تقرير الاحتياجات الإنسانية 2025 إلى أن تمويل الاستجابة الإنسانية في الضفة الغربية لم يتجاوز 45٪ من المطلوب حتى منتصف العام.
أزمة الحماية لا تنتهي عند فقدان الأرواح أو البيوت؛ بل تمتد إلى تدمير الشعور بالأمان والثقة بالمستقبل. أجيال كاملة تكبر وهي تحمل في وعيها رواسب الخوف والصدمات المتراكمة. هذه التداعيات لا تمس الأطفال وحدهم، بل تُلقي بظلالها على استقرار المجتمع الفلسطيني ومستقبله.
وفي تقرير مشترك لـ"اليونيسف" و"مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان" (OHCHR)، حذّر الخبراء من أن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى "جيل فاقد للثقة في المؤسسات والقانون الدولي، وأكثر عرضة للعنف والتهميش".
أزمة الحماية في الضفة الغربية اليوم ليست مجرد قضية أرقام وإحصاءات، بل هي مأساة إنسانية يعيشها جيل كامل يفقد حقه الطبيعي في الأمان والطفولة، وتدعو الأصوات الحقوقية الدولية والمحلية جميع الأطراف، وخاصة السلطات الإسرائيلية كقوة احتلال، إلى احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني، وتوفير حماية خاصة للأطفال باعتبارهم الفئة الأكثر ضعفًا في أي نزاع.