نساء يواجهن الموت.. "قابس التونسية" بين سموم المجمع الكيميائي والعنف الأسري

نساء يواجهن الموت.. "قابس التونسية" بين سموم المجمع الكيميائي والعنف الأسري
مظاهرة نسوية في مدينة قابس التونسية - أرشيف

في ولاية قابس التونسية، لا تنفصل معاناة النساء عن رائحة الهواء المشبع بالكيماويات.. هنا، لا تكتفي النساء بمقاومة العنف الزوجي أو الاقتصادي، بل يُفرض عليهن أيضًا خوض معركة يومية ضد أجسادهن، بعدما بات السرطان زائرًا دائمًا لا يستثني بيتًا ولا عمرًا، والسبب هو مجمع كيميائي ضخم يواصل بث سمومه في سماء الجنوب بلا رادع.

في شهادتها، تقول السيدة عرفة، رئيسة جمعية الكرامة للأسرة العربية والمشرفة على مركز الإيواء للنساء ضحايا العنف في قابس، إن النساء في الولاية يواجهن معاناة مضاعفة، فإلى جانب العنف المنزلي والاقتصادي، ترتفع نسب الإصابة بسرطان عنق الرحم والثدي بشكل مقلق، خصوصًا في مناطق شط السلام، غنوش، وبوشمة، وهي الأقرب إلى المجمع الكيميائي الذي تتهمه منظمات بيئية ومواطنون بإبادة بطيئة للمنطقة.

"من بين كل 10 نساء نأويهن في المركز، نصفهن مصابات بالسرطان"، تقول عرفة، مضيفة: "غالبًا ما يتزامن المرض مع العنف، فحين تفقد المرأة صحتها، تتعرض للضغط والهرسلة من زوجها وكأنها أصبحت عبئًا غير مرغوب فيه".

كل بيت يحمل مصاباً

تؤكد الجمعية أن كل أسرة في قابس تقريبًا لديها فرد مصاب بالسرطان، وفق دراسة ميدانية. كما تسجل الولاية نسبًا مرتفعة لسرطان الجهاز التناسلي والرئة، فضلًا عن أزمات متكررة كتسرّب الأمونياك سابقًا في مدرسة ببوشمة، ما تسبب في حالات إغماء جماعي بين التلاميذ.

ولا يقتصر التلوث على الهواء، بل يمتد إلى البحر، حيث يتم إلقاء الفوسفوجيبس، ما أدى إلى كارثة بيئية بحرية تهدد الثروة السمكية، وتُحوّل البحر إلى مستنقع سام.

ورغم الكارثة الصحية، لا تتحدث النساء في قابس عن معاناتهن، لا من المرض ولا من العنف. المجتمع المحافظ لا يرحم مريضة تتخلى عن دورها التقليدي، ولا يُغفر لها أن تترك بيت الزوجية ولو كان بيئة سامة.

تقول عرفة: "النساء يخشين النظرة الاجتماعية أكثر من المرض. يتقبلن الإهانة والعنف من أجل البقاء في البيت، وكأن ما يُقتل فيهن أولًا هو الروح، قبل الجسد".

مركز "الأمان" ملاذ 

وسط كل هذا الظلام، يبزغ أمل صغير اسمه مركز "الأمان" في قابس، الذي يُعد من المبادرات المدنية القليلة في الجنوب التونسي المعنية بإيواء ودعم النساء ضحايا العنف.

يقدم المركز رعاية شاملة، نفسية عبر مختصات، اجتماعية وقانونية، صحية لمن هن في مراحل علاج السرطان، واقتصادية عبر تمكين وتدريب في مهن يدوّية أو مهارات

ورغم حملات التحريض والتشكيك التي تطوله من أطراف محافظة، يواصل المركز عمله بإصرار.. "لا نترك المرأة إلا وهي على الطريق الذي اختارته بنفسها"، تقول عرفة.

وجهان لقضية واحدة

لا تفصل الجمعية بين النضال ضد التلوث والنضال من أجل حقوق النساء، إذ ترى أن قضية التمكين البيئي والنسوي متلازمتان، فالتلوث يُضاعف هشاشة النساء، والعنف يُفاقم معاناتهن الصحية والاقتصادية.

وتقود الجمعية حراكًا بالتعاون مع ائتلاف "نحن نعيش" لنقل المجمع الكيميائي إلى خارج المناطق السكنية، دون المطالبة بإغلاقه، إدراكًا منها لحاجة الأهالي للعمل، لكنها تُصر على ضرورة إبعاد السموم عن الأحياء.

رغم الوعود السياسية منذ الثورة وحتى اليوم، لم يُتخذ أي إجراء فعلي لنقل المجمع أو تعويض المتضررين، ولم يتم بناء مستشفى مختص لعلاج أمراض السرطان في قابس.

"نخشى أن يأتي يوم لا يبقى فيه في قابس من يتنفس"، تختتم عرفة شهادتها، مضيفة "فهذه الولاية التي تجمع الواحة بالبحر بالجبل.. تُدفن حيّة تحت نفايات المصانع".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية