تقرير حقوق الإنسان الأمريكي في عهد ترامب.. لغة انتقائية بين الحلفاء والخصوم
منصة لتصفية الحسابات
في تحولٍ يوصف بأنه الأعمق منذ عقود في نهج واشنطن تجاه قضايا الحقوق والحريات، كشفت تقارير أعدتها "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"فايننشيال تايمز" عن إعادة صياغة شاملة للتقييم السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم، بحيث جرى تقليص أو حذف العديد من الانتقادات الموجهة إلى دول بعينها، والتركيز على قضايا تتماشى مع أولويات إدارة الرئيس دونالد ترامب السياسية، مع إغفال أو تخفيف حدة التوصيفات السابقة لانتهاكات جسيمة
وبحسب "نيويورك تايمز"، فإن التقرير الجماعي الذي صدر الثلاثاء وشمل 198 دولة، أتى أقصر بكثير وأقل تفصيلًا من تقارير الأعوام السابقة، بعدما أجرى مسؤولون سياسيون في وزارة الخارجية عملية مراجعة طويلة بهدف "تقليص العبارات" الواردة فيه.
ونتيجة لذلك، تم تقليص أو استبعاد اللغة الرئيسية في أقسام تخص بعض الدول التي تُعتبر من الشركاء المقربين لترامب وعلى رأسها إسرائيل والسلفادور والمجر.
اللافت أن التقرير الجديد أغفل، مقارنة بتقرير العام الماضي، إشارات مهمة لانتهاكات حقوق المرأة ومجتمع الميم في عدة دول، كما غابت الإشارة إلى النتائج الكارثية للحرب الإسرائيلية على غزة منذ عام 2023، والتي وصفها التقرير السابق بأنها أسفرت عن عشرات الآلاف من القتلى وشردت الغالبية العظمى من السكان، متسببة في أزمة إنسانية حادة.
وفي تقريرها أكدت "فايننشيال تايمز" أن القسم الخاص بإسرائيل والأراضي الفلسطينية اكتفى هذا العام بذكر مقتضب لمقتل ما لا يقل عن 60 ألف فلسطيني وفقًا لمسؤولي الصحة المحليين، دون أي ذكر للأزمة الإنسانية، مشيرًا فقط إلى استمرار احتجاز نحو 100 رهينة حتى نهاية العام.
حلفاء اليمين أولا
وبدورها أشارت "واشنطن بوست" إلى أن التخفيضات لم تكن مجرد تبسيط لغوي، بل عكست إعادة ترتيب لأولويات السياسة الخارجية الأمريكية، إذ بدا أن الحلفاء المقربين من إدارة ترامب، مثل إسرائيل والسلفادور، حظوا بمعاملة أكثر تساهلًا، بينما وُجهت انتقادات أشد لخصوم سياسيين، مثل البرازيل وجنوب إفريقيا، وحتى بعض الديمقراطيات الغربية كفرنسا والمملكة المتحدة.
فعلى سبيل المثال، اتهم التقرير الحكومة اليسارية في البرازيل بـ"قمع حرية التعبير لمؤيدي الرئيس السابق جايير بولسونارو"، الحليف المقرب لترامب، وفي جنوب إفريقيا، وصف خطوة تشريعية تتعلق بالأراضي بأنها "مقلقة للغاية" وتمثل تهديدًا للأقليات، وهي لغة تعكس تصريحات ترامب نفسه بشأن منح صفة اللجوء للمزارعين البيض.
أما في أوروبا الغربية، فقد نقلت "فايننشيال تايمز" أن التقرير سلط الضوء على ما وصفه بـ"القيود الخطيرة على حرية التعبير" في المملكة المتحدة وألمانيا، منتقدًا قوانين مكافحة خطاب الكراهية بوصفها اعتداءً على حرية الرأي، في انسجام مع مواقف قيادات يمينية بارزة في أوروبا وأمريكا.
وأوضحت "واشنطن بوست" أن عملية التحرير أدت إلى تقييد أو حذف كامل للتدقيق في قضايا حيوية، مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي واضطهاد مجتمع الميم، وحالات ترحيل أشخاص إلى دول قد يواجهون فيها التعذيب، والفساد الحكومي.
هذا التوجه لم يقتصر على مناطق محددة، بل شمل حذفًا أو تقليصًا لمعلومات جوهرية من تقارير دول مثل السلفادور، حيث أزيلت الإشارات السابقة إلى "ظروف السجن القاسية والمهددة للحياة" التي وثقت في تقرير 2023، رغم استمرار العمل باتفاق يسمح للولايات المتحدة بإرسال مهاجرين مرحلين إلى سجون سلفادورية.
أقل حدة مع الخصوم الكبار
رغم أن إدارة ترامب السابقة وصفت ما تتعرض له أقلية الإيغور المسلمة في الصين بأنه "إبادة جماعية"، فإن "نيويورك تايمز" لاحظت أن ملخص هذا العام لقسم الصين جاء أقصر بنصف الطول مقارنة بالعام الماضي، مستبعدًا الإشارة إلى "التدخل الكبير في حرية التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات" وغيرها من الانتهاكات.
حتى روسيا، التي يواجه رئيسها فلاديمير بوتين مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، لم تحظَ بلهجة أكثر تشددًا، بل أشارت الصحيفة إلى أن وزارة الخارجية تساعد في تنظيم قمة مرتقبة بين ترامب وبوتين في ألاسكا.
ترافق التقليص في المضمون مع تغييرات واسعة داخل وزارة الخارجية، فوفق "واشنطن بوست"، قاد وزير الخارجية ماركو روبيو عملية إعادة تنظيم شاملة أغلقت مكاتب محورية في ملفات حقوق الإنسان والديمقراطية وجرائم الحرب، وسرحت نحو 1300 موظف في يوليو الماضي، بينهم عدد كبير من المتخصصين الذين كانوا يسهمون في صياغة التقارير.
وذكرت "فايننشيال تايمز" أن هذه التخفيضات أثرت بشكل خاص على المكاتب المعنية بحقوق الإنسان واللاجئين والمساعدات الخارجية، وهو ما يفسر جزئيًا الطابع المختصر وغير المفصل للتقارير الجديدة.
ردود فعل منقسمة
الإصدار الخافت للتقارير، دون مؤتمر صحفي أو مقدمة من الوزير، أثار انتقادات لاذعة من مسؤولين حاليين وسابقين، وقال جوش بول، المسؤول السابق في مكتب وزارة الخارجية المشرف على عمليات نقل الأسلحة، لـ"نيويورك تايمز"، إن التقرير "أشبه بالدعاية السوفيتية" بسبب تقديمه حقائق قليلة وأنصاف حقائق كثيرة، مضيفًا أن الأولويات السياسية طغت على الحقائق.
في المقابل، دافع السيناتور الجمهوري جيمس إي. ريش، زميل روبيو السابق، عن الصيغة الجديدة معتبرًا أنها "أسهل قراءة" وأكثر دقة في عكس "حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا"، بينما وصفت السيناتور الديمقراطية جين شاهين تقارير هذا العام بأنها "مجرد ظل باهت لتقارير السنوات السابقة، خالية من المعلومات المهمة حول الانتهاكات الجسيمة".
لم تقتصر الانتقادات على الكونغرس، فقد قالت عزرا زيا، المسؤولة السابقة بوزارة الخارجية في عهد بايدن، لـ"واشنطن بوست" إن مهاجمة حلفاء الولايات المتحدة الديمقراطيين بشأن حرية التعبير، مع السعي في الوقت ذاته لمعاقبة طلاب جامعيين على احتجاجات سلمية ضد السياسة الأمريكية في غزة، يعكس "نهجًا هدامًا ومنافقًا" في التعامل مع حقوق الإنسان.
خيبة أمل كبيرة
أما منظمة العفو الدولية، فعبّرت عبر مديرة المناصرة فيها أماندا كلاسينج عن "خيبة أمل كبيرة" من القرار "القصير النظر" بإصدار نسخة مختصرة لا تروي القصة الكاملة للانتهاكات.
وقالت: "يدرك الوزير روبيو تمامًا، من خلال فترة عمله في مجلس الشيوخ، مدى أهمية هذه التقارير في إثراء القرارات السياسية وتشكيل الحوارات الدبلوماسية، ومع ذلك فقد اتخذ قرارًا خطيرًا وقصير النظر بإصدار نسخة مختصرة لا تروي القصة الكاملة لانتهاكات حقوق الإنسان".
منذ ما يقرب من نصف قرن، كانت تقارير وزارة الخارجية السنوية حول حقوق الإنسان تُعتبر الأكثر شمولًا في العالم، وتعتمد عليها المحاكم وصناع القرار في الداخل والخارج، وبحسب "واشنطن بوست"، فإن التوجيهات الداخلية هذا العام أوصت بحذف الإشارات إلى انتهاكات خطيرة في دول حليفة، وهو ما قوبل بمقاومة من بعض الدبلوماسيين.
لكن الإدارة ترى أن التعديلات تأتي في إطار "إزالة الأيديولوجيات السياسية المتطرفة" وتحقيق التوافق مع الأوامر التنفيذية، بحسب المتحدثة باسم الوزارة تامي بروس، التي أكدت أن التقرير "يستجيب للالتزامات التشريعية" بدلًا من "قائمة مطولة من الادعاءات المتحيزة سياسيًا".
والنتيجة النهائية، كما وصفتها الصحف الثلاثة، هي تقرير أقصر، وأقل تفصيلًا، وأكثر انتقائية في انتقاداته، بحيث تتحول أداة يُفترض أنها مستقلة لتوثيق أوضاع الحقوق حول العالم، إلى وثيقة سياسية موجهة تخدم أولويات الإدارة، مع التركيز على قضايا حرية التعبير المرتبطة غالبًا بحلفاء اليمين المتطرف، وتخفيف أو حذف الانتهاكات الجسيمة في دول شريكة.