الطلاق في العراق.. أرقام تتسع وتداعيات اجتماعية وقانونية تضغط على الجميع

الطلاق في العراق.. أرقام تتسع وتداعيات اجتماعية وقانونية تضغط على الجميع
ظاهرة الطلاق والانفصال الأسري

تكشف أحدث بيانات مجلس القضاء الأعلى عن تسجيل 6910 حالات طلاق خلال يوليو الماضي في عموم العراق باستثناء إقليم كردستان، مقابل 22 ألفا و677 عقد زواج في الشهر نفسه، وتصدرت بغداد بقسميها الرصافة والكرخ قائمة الطلاق تلتها البصرة، فيما حازت نينوى وبغداد أعلى أعداد عقود الزواج. وعلى امتداد نصف عام 2025 الأول، سُجلت 34 ألفا و522 حالة طلاق، في منحنى يؤكد اتساع الظاهرة ومراكمتها لأثر اجتماعي واقتصادي متزايد. 

يصعب فصل أزمة الانفصال الأسري عن السياق الاقتصادي والمعيشي، فرغم تحسن مؤشرات مالية كلية مدفوعة بعوائد النفط، تظل قدرة الاقتصاد على توليد فرص عمل مستقرة ومجزية محدودة، ما ينعكس هشاشة على الأسر الشابة مع كلفة سكن ومعيشة متزايدة وتفاوت تنموي بين المحافظات، وينبه كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى أن نمو القطاعات غير النفطية ما زال مقيدا بضعف القدرات الاستيعابية وبطء إصلاحات سوق العمل، بما يفاقم البطالة المقنعة وعدم الاستقرار الوظيفي، وهما محركان رئيسيان للتوتر الأسري وفق البنك الدولي.

يمثل الزواج المبكر أحد أكثر العوامل حساسية على استدامة العلاقة الزوجية، حيث تشير تقديرات أممية إلى أن أكثر من ربع الفتيات تزوجن قبل سن الثامنة عشرة في العراق خلال الأعوام الأخيرة، بينما وثقت منظمات حقوقية رقما لافتا لعمليات تقنين القضاء لزيجات غير مسجلة جرت خارج المحاكم، وهو مسار غالبا ما يلتف على متطلبات السن والموافقة ويترك النساء في موقع هش في حال الانفصال أو النزاع على الحضانة والنفقة وفق منظمة هيومن رايتش ووتش.

قانون يثير جدلا 

في مطلع 2025 دخلت تعديلات على قانون الأحوال الشخصية حيّز النفاذ، واعتبرتها منظمات دولية انتكاسة لحقوق النساء والفتيات لأنها تفتح الباب لزواج مبكر وتعيد مسائل الزواج والطلاق والحضانة إلى اجتهادات دينية متباينة، ما يهدد وحدة المرجعية القانونية ويضعف ضمانات المساواة أمام القانون، ويحذر حقوقيون من أن إضعاف الحماية القانونية للمرأة يفاقم دائرة النزاعات الأسرية ويرفع احتمالات الانفصال القسري أو غير المتكافئ. 

على الرغم من أن إقليم كردستان يمتلك منذ 2011 قانونا خاصا لمناهضة العنف الأسري، لا يزال العراق الاتحادي من دون قانون وطني نافذ يحمي الضحايا ويؤمن مسارات عدالة متخصصة، وفق تقارير أممية وأوروبية، وتؤكد هذه التقارير أن غياب إطار حماية موحد يترك الكثير من الانتهاكات بلا مساءلة فعالة، ويزيد احتمالات تفكك الروابط الأسرية عبر بوابة الطلاق، خصوصا حين يتداخل العنف مع فقر وتهميش وفرص محدودة للوصول إلى خدمات الدعم النفسي والاجتماعي. 

ولا تقف تبعات الطلاق عند الزوجين، فالأطفال يدفعون السعر الأعلى في التحصيل الدراسي والصحة النفسية وإمكانات الاندماج الاجتماعي، بينما تُظهر خبرة المنظمات المحلية أن الأسر ذات الدخل المحدود تتأثر بمضاعفات مادية مباشرة كفقدان السكن المشترك أو انتقال الحضانة من دون توفير شبكات حماية كافية، ومع تزايد النزاعات على الحضانة والنفقة في محاكم الأحوال الشخصية، تتكاثر حالات الانقطاع المدرسي وعمالة الأطفال في البيئات الأكثر هشاشة.

وتدعو منظمات نسوية وشبكات مجتمع مدني إلى وقف أي تشريعات تُضعف مكاسب قانون 1959 وضمان اتساق المنظومة القانونية مع التزامات العراق الدولية في المساواة وعدم التمييز وحماية الطفل، وتلفت بيانات حقوقية أممية إلى الحاجة لتوسيع خدمات الإيواء والاستشارات القانونية والدعم النفسي، وتدريب كوادر الشرطة والقضاء على التعامل مع قضايا العنف الأسري والنزاعات الزوجية وفق معايير تراعي النوع الاجتماعي ومصلحة الطفل، وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.

القانون الدولي ومسؤوليات الدولة

يصون انضمام العراق إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة عام 1986 واتفاقية حقوق الطفل عام 1994 التزاما قانونيا بحماية النساء والأطفال من الممارسات التي تهدد كرامتهم وأمنهم وحقوقهم المتساوية داخل الأسرة وخارجها، وتؤكد هيئات الأمم المتحدة أن أي ترتيبات قانونية تمس الزواج والطلاق والحضانة يجب أن تُبنى على مبدأي المساواة ومصلحة الطفل الفضلى، وأن تُنظَّم بوضوح عبر قضاء مدني موحد يضمن حقوق الطرفين وحقوق الأبناء من دون تمييز. 

تبقى قوة الدخل الحقيقي للأسر تحت ضغط ارتفاع كلفة السكن والخدمات والمواد الأساسية، خصوصا مع تذبذب فرص العمل في القطاع الخاص وضعف الحماية الاجتماعية لليد العاملة غير المنظمة، وتتفاقم المشكلات مع الديون الأسرية الصغيرة وقروض الاستهلاك التي سرعان ما تتحول إلى عبء داخل البيت، لتصبح الخلافات المالية وقودا سريعا لنزاعات تستقر في أروقة المحاكم. 

يرصد عاملون اجتماعيون ومحامون للأسرة دورا متزايدا لعوامل ثقافية وسلوكية جديدة في تفاقم الخلافات، مثل أنماط الاستهلاك الرقمية وتوسع استخدام منصات التواصل الاجتماعي وما تخلقه من توقعات غير واقعية أو صراعات على الخصوصية والثقة، وفي بيئة تشهد انتقالا اجتماعيا سريعا من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد الخدمات، تتسع الفجوات بين أجيال الأسر ومفاهيمها حول أدوار الجنسين واتخاذ القرار والإنفاق، فتتآكل وساطات الأسرة الممتدة في تسوية الخلافات.

سياسات لخفض الطلاق وآثاره

تقترح منظمات أممية ومحلية حزمة تدخلات متكاملة للحد من ظاهرة الطلاق وكبح تداعياتها، يبدأ ذلك بإصلاح تشريعي يضمن المساواة أمام قضاء مدني موحد، وتوسيع برامج التوعية قبل الزواج والإرشاد الأسري المجاني في المراحل الأولى للخلاف، وتمويل خدمات حماية الضحايا وبرامج الوساطة، إلى جانب سياسات سوق عمل تخلق وظائف لائقة للشباب والنساء، وتوسيع دعم السكن الميسر للأسر الجديدة، كما تُعد محو الأمية المالية للأزواج أداة ضرورية لإدارة الدخل والديون، مع توسيع التعليم المستمر لكوادر القضاء والشرطة حول قضايا الأسرة والعنف القائم على النوع الاجتماعي. 

صعود المنحنى الشهري والسنوي لحالات الطلاق لا يعني فقط أزمات شخصية متراكمة، بل يشي أيضا بثغرات في منظومة الحماية الاقتصادية والقانونية والثقافية للأسرة، وتعكس القضايا التي تُسجل في بغداد والبصرة ونينوى، على تباينها، معادلة واحدة مفادها أن العقد الاجتماعي داخل البيت يهتز حين لا يجد طرفاه شبكات دعم عادلة ونزيهة وسريعة، وحين يُفتح الباب لزواج هش أو غير متكافئ من البداية، أو حين تعجز السياسات الاقتصادية والخدمية عن توفير بيئة عيش مستقرة.

وتؤكد توصيات حقوقية أنه لا يمكن لسياسة واحدة أن تخفض الطلاق أو تحد من آثاره، لكن يمكن لحزمة متناسقة أن تُحدث فارقا ملموسا. الأولوية لدرء أي تشريعات تضعف حماية النساء والأطفال، وإقرار قانون وطني لمناهضة العنف الأسري مع آليات تنفيذ فعالة، وتوسيع خدمات الإرشاد الأسري قبل الزواج وبعده داخل المحاكم وخارجها، وتوجيه جزء من برامج الحماية الاجتماعية إلى دعم الأسر الشابة في السكن والعمل ورعاية الأطفال، كما أن تعزيز الشفافية الإحصائية الشهرية وربطها بسياسات تدخل على مستوى المحافظات سيتيح استهدافا أدق للموارد، ويمنح صنّاع القرار والجمهور مؤشرات مبكرة تمنع تحوّل الخلافات إلى فراق دائم. 

تعتمد الأرقام الرسمية لحالات الزواج والطلاق على نشرات مجلس القضاء الأعلى شهريا في المحافظات الخمس عشرة خارج إقليم كردستان، وخلال يوليو 2025 سُجلت 6910 حالات طلاق و22 ألفا و677 عقد زواج، مع تمركز أعلى حالات الطلاق في بغداد ثم البصرة، ويشير رصد النصف الأول من 2025 إلى 34 ألفا و522 حالة طلاق، ما يعكس وتيرة مرتفعة قياسا بالمعدلات الشهرية في بداية العام.

على المستوى القانوني، دخلت تعديلات على قانون الأحوال الشخصية حيز النفاذ في فبراير 2025 وأثارت انتقادات واسعة من منظمات دولية على خلفية تأثيرها في سن الزواج وضمانات المساواة أمام القانون، أما على صعيد الالتزامات الدولية، فقد انضم العراق إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة عام 1986 وإلى اتفاقية حقوق الطفل عام 1994، ما يجعله مطالبا بتأمين حماية تشريعية وقضائية فعالة للنساء والأطفال في قضايا الأسرة. 

وتبقى توصيات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات الحقوقية متركزة حول الحاجة لقانون وطني لمناهضة العنف الأسري، وتوسيع خدمات الدعم القانوني والنفسي، وربط السياسات الاقتصادية بالرفاه الأسري، ولا سيما في المحافظات الأقل نموا. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية