244 شهيداً من الصحفيين.. لماذا تخشى إسرائيل رواية غزة؟
244 شهيداً من الصحفيين.. لماذا تخشى إسرائيل رواية غزة؟
في جريمة جديدة تسلط الضوء على المخاطر الهائلة التي تواجه العمل الصحفي في قطاع غزة، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع ارتفاع حصيلة الشهداء من الصحفيين إلى 244 منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية على غزة، وذلك بعد قصف إسرائيلي استهدف مجموعة من الإعلاميين خلال تغطيتهم للأحداث في محيط مستشفى ناصر بمحافظة خان يونس.
من بين الضحايا: حسام المصري، مصور وكالة "رويترز"، ومحمد سلامة، مصور قناة "الجزيرة"، ومريم أبو دقة، صحفية عملت مع عدة مؤسسات منها "اندبندنت عربية" ووكالة "أسوشيتد برس"، ومعاذ أبو طه، صحفي ميداني لدى شبكة "NBC" الأمريكية، والذين كانوا في مهمة مهنية توثيقية، قبل أن تتحول عدساتهم إلى شاهد أخير على حياتهم القصيرة.
الإعلام كهدف مباشر
لم يكن هذا الاستهداف الأول، فبحسب بيانات الاتحاد الدولي للصحفيين، يُعدّ قطاع غزة اليوم أخطر منطقة في العالم لممارسة الصحافة، وتؤكد المنظمة أن العدد غير المسبوق من الصحفيين الذين لقوا حتفهم في غزة "يوازي حصيلة ضحايا الصحفيين في النزاعات العالمية خلال عقد كامل".
وتشير تقارير “مراسلون بلا حدود” إلى أن إسرائيل تعتمد "استراتيجية ممنهجة" لإسكات الصحافة الفلسطينية والدولية العاملة في غزة، حيث استُهدفت مكاتب إعلامية كبرى مثل "الجزيرة"، و"أسوشيتد برس"، و"رويترز"، عبر القصف المباشر للمباني الصحفية، إضافة إلى اغتيال الصحفيين الميدانيين بشكل متكرر.
من جانبها، وصفت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) ما يجري بأنه "مذبحة إعلامية غير مسبوقة"، معتبرة أن "مقتل هذا العدد من الصحفيين خلال فترة قصيرة يُعد مؤشراً على استهداف متعمد لإسكات التغطية المستقلة".
جرائم موثقة بالقانون
القانون الدولي الإنساني واضح في هذا السياق، فوفقاً للمادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977)، يتمتع الصحفيون العاملون في مناطق النزاع بحماية باعتبارهم مدنيين، ولا يجوز استهدافهم أو معاملتهم كأهداف عسكرية، ورغم ذلك، تشير تقارير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان إلى أن إسرائيل لم تلتزم بتعهداتها، حيث جرى توثيق عشرات الحالات التي تعرض فيها صحفيون للاستهداف رغم ارتدائهم سترات واضحة تحمل شارة "PRESS".
وفي يناير 2024، حذرت المحكمة الجنائية الدولية من أن استهداف الصحفيين قد يرقى إلى جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي، مؤكدة أن التحقيقات الأولية ستأخذ في الاعتبار تقارير استهداف الإعلاميين في غزة.
تحليل خبراء الإعلام والحقوقيين يذهب إلى أن استهداف الصحافة في غزة لا يرتبط فقط بالبعد العسكري، بل بالسيطرة على الرواية، فالتغطية الميدانية وثّقت منذ بداية الحرب مجازر واسعة ضد المدنيين، ودماراً ممنهجاً للأحياء السكنية والبنية التحتية، ما شكّل ضغطاً متزايداً على الرأي العام العالمي، ودفع منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية إلى اتهام إسرائيل بارتكاب "جرائم حرب" و"إبادة جماعية ممنهجة".
يرى مراقبون أن تغييب الصحفيين يهدف إلى خلق فراغ معلوماتي، يسمح لرواية رسمية إسرائيلية بالسيطرة على المجال الإعلامي الدولي، خصوصاً مع القيود المفروضة على دخول الصحافة الأجنبية إلى غزة منذ سنوات الحصار.
الثمن الإنساني والمعنوي
لا يقتصر أثر هذه الجرائم على حرمان العالم من الصورة الحقيقية فحسب، بل يمتد ليشكل مأساة إنسانية لأسر الصحفيين وللجسم الصحفي الفلسطيني الذي يفقد يوماً بعد آخر نخبة من أبرز طاقاته، تقول نقابة الصحفيين الفلسطينيين إن "غزة تشهد عملية إبادة للصحافة موازية لإبادة السكان"، مشيرة إلى أن نحو 70% من الصحفيين فقدوا منازلهم أو أفراداً من عائلاتهم.
إضافة إلى ذلك، يواجه الصحفيون الناجون تحديات هائلة، من بينها نقص المعدات وانقطاع الاتصالات والكهرباء، وغياب الحماية الطبية، حيث تعرض بعضهم للإصابة خلال التغطية دون إمكانية الحصول على علاج مناسب بسبب انهيار القطاع الصحي.
ورغم الإدانات المتكررة من الأمم المتحدة، وخصوصاً من اليونسكو التي اعتبرت قتل الصحفيين ضربة قاتلة لحرية الإعلام، فإن الإجراءات العملية تكاد تكون معدومة، فقد فشل مجلس الأمن في إصدار قرار ملزم لحماية الصحفيين في غزة، فيما تكتفي الدول الغربية بالتعبير عن القلق البالغ، مع استمرار تزويد إسرائيل بالدعم العسكري والسياسي.
الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عبّر عن "صدمة عميقة" من حجم استهداف الصحفيين، لكنه أقر في أكثر من مناسبة أن غياب الإرادة السياسية داخل مجلس الأمن يمنع اتخاذ خطوات فعالة لوقف الانتهاكات.
الصحافة في مواجهة الاحتلال
لا يمكن فهم ما يجري بمعزل عن السياق التاريخي، فمنذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وثّقت المؤسسات الحقوقية سلسلة طويلة من الجرائم ضد الصحفيين الفلسطينيين، بدءاً من اغتيال الصحفي الإيطالي سيمون كاميلّي عام 2014 في غزة، وصولاً إلى اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية عام 2022، وعكست هذه الحوادث نمطاً متكرراً من الإفلات من العقاب، حيث لم يُحاسب أي مسؤول إسرائيلي على تلك الجرائم رغم المطالب الدولية المتكررة.
مع تزايد أعداد الضحايا من المؤسسات الإعلامية الدولية مثل "رويترز" و"الجزيرة" و"أسوشيتد برس"، تبرز مخاوف جدية بشأن حرية الصحافة العالمية، إذ يعتبر خبراء الإعلام أن استمرار استهداف الصحفيين في غزة دون محاسبة يشكل سابقة خطيرة قد تُشرعن استهداف الصحفيين في نزاعات أخرى حول العالم.
وفي تقرير حديث، حذّرت “مراسلون بلا حدود” من أن "غزة أصبحت مقبرة مفتوحة للصحفيين"، مؤكدة أن التواطؤ الدولي في التغاضي عن هذه الانتهاكات "يهدد سلامة الصحفيين في جميع مناطق النزاع على مستوى العالم".
الحاجة إلى تحرك عاجل
طالب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إلى جانب نقابة الصحفيين الفلسطينيين، المجتمع الدولي بـ"تفعيل آليات المحاسبة الدولية"، بما في ذلك تنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق قادة إسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وفرض عقوبات دبلوماسية وعسكرية واقتصادية لردع الانتهاكات.
كما دعت منظمات حقوقية إلى تأمين ممرات آمنة للصحفيين وإدخال معدات حماية، إضافة إلى السماح لوسائل الإعلام الدولية بالدخول إلى غزة بشكل مباشر لتوفير تغطية مستقلة بعيداً عن الرقابة العسكرية الإسرائيلية.
مع بلوغ عدد شهداء الصحافة في غزة 244، تتحول الكاميرا يوماً بعد آخر إلى هدف مباشر في معركة الوجود والرواية، فهذه الخسارة المروعة لا تقتصر على الجسم الصحفي الفلسطيني، بل تطول العالم بأسره، الذي يُحرم من الصورة الكاملة لما يجري على الأرض، وفي ظل غياب المحاسبة تظل حرية الصحافة في غزة رهينة الصمت العالمي، فيما يقف الصحفيون هناك في خط الدفاع الأول عن الحقيقة، بأجسادهم قبل كاميراتهم.