محاكمة الدرك في هاتاي.. اختبار لجدية مواجهة الانتهاكات وإعلاء حقوق الإنسان بتركيا
محاكمة الدرك في هاتاي.. اختبار لجدية مواجهة الانتهاكات وإعلاء حقوق الإنسان بتركيا
في التاسع من سبتمبر الجاري، ستنعقد في محكمة الجنايات الأولى بمحافظة هاتاي في تركيا جلسة طال انتظارها لمحاكمة ثلاثة عشر عنصراً من قوات الدرك الأمنية، متهمين بقتل أحمد غوريشجي تحت التعذيب، بالإضافة إلى تعذيب شقيقه صبري أثناء احتجازهما في فبراير 2023.
القضية التي وثقتها منظمات حقوقية بارزة، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، لا تمثل مجرد محاكمة جنائية اعتيادية، بل تمثل اختباراً بالغ الأهمية لإرادة السلطات التركية في مواجهة انتهاكات طالما رافقتها اتهامات بالتستر والإفلات من العقاب.
ووفق تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش الخميس بدأت المأساة بعد أيام قليلة من الزلازل المدمرة التي ضربت جنوب تركيا في فبراير 2023، حين اعتُقل الشقيقان في قضاء بويوكبورج بمحافظة هاتاي للاشتباه في ارتكابهما أعمال نهب.
وبحسب شهادات ناجين وتقارير طبية رسمية، تعرض الرجلان لتعذيب شديد في مخزن تابع لمركز الدرك، شمل الضرب المبرح والإهانة الجسدية والاعتداء الجنسي، ما أدى إلى وفاة أحمد متأثراً بإصابات دماغية، في حين نجا شقيقه صبري مع كسور وكدمات تثبت روايته.
رغم وضوح الأدلة الموثقة بتقارير الطب الشرعي وشهادات شهود العيان، فلم يُحتجز أي من المتهمين احتياطياً خلال التحقيقات، في حين تشير إفادات محامي العائلة إلى أن معظمهم لا يزال في الخدمة، ما يعكس هشاشة آليات المحاسبة داخل المؤسسة الأمنية.
أنماط متكررة من الانتهاكات
القضية ليست معزولة عن سياق أوسع، فتقارير المنظمات الحقوقية، المحلية والدولية، سجلت عشرات الحالات المماثلة لانتهاكات الشرطة والدرك، خاصة في المناطق الحدودية والريفية، ففي مارس 2023 قضت محكمة في هاتاي بالسجن المؤبد على أربعة جنود أدينوا بتعذيب لاجئين سوريين حتى الموت.
ورغم أن هذا الحكم اعتُبر استثناءً إيجابياً، فإنه لم يغير من حقيقة أن غالبية الجرائم المماثلة تمر دون عقاب.
ووفقاً لتقرير هيومن رايتس ووتش الصادر في أبريل 2023، وثقت المنظمة سلسلة من حالات التعذيب أثناء الاحتجاز، إلى جانب مزاعم استخدام القوة المفرطة ضد المشتبه بهم، في بيئة تتسم بتزايد خطاب أمني صارم يبرر الانتهاكات بذريعة حماية الأمن القومي.
ردود الأفعال الحقوقية والدولية
هيومن رايتس ووتش اعتبرت أن محاكمة عناصر الدرك في هاتاي فرصة نادرة لإثبات جدية السلطات التركية في مواجهة التعذيب، مؤكدة أن الحظر المطلق للتعذيب مبدأ راسخ في القانون الدولي لا يجوز التهاون في تطبيقه.
وشددت منظمة العفو الدولية بدورها على أن التحقيقات الجنائية في مثل هذه القضايا يجب أن تكون سريعة وشفافة ومستقلة، معتبرة أن أي تهاون في المحاسبة يعزز مناخ الإفلات من العقاب.
على الصعيد الأممي، كان المقرر الخاص المعني بالتعذيب قد دعا في تقاريره السابقة إلى إلزام أنقرة بمراجعة سياساتها الأمنية، مشيراً إلى أن الاعتقالات التعسفية والانتهاكات أثناء الاحتجاز لا تزال تمثل مصدر قلق رئيسياً.
القانون والالتزامات التركية
تركيا طرف في اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، والتي تلزم الدول الأطراف بالتحقيق في جميع مزاعم التعذيب وضمان محاكمة مرتكبيه وإنصاف الضحايا، كما أن الدستور التركي نفسه يحظر بشكل صريح التعذيب والمعاملة القاسية، لكن الواقع العملي يكشف فجوة بين النصوص والتطبيق، حيث أشار تقرير اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب في 2022 إلى "مشكلات ممنهجة" في مساءلة عناصر الأمن.
القضية لا تنحصر في معاناة عائلة غوريشجي، بل تمثل انعكاساً لمعاناة آلاف الأسر، خاصة في المجتمعات المحلية المتضررة من الزلازل، حيث يتقاطع الفقر مع التهجير وفقدان السكن، يتحول التعرض للانتهاكات الأمنية إلى مصدر إضافي للغضب والخذلان، ويخشى مراقبون من أن استمرار هذه الانتهاكات يقوض الاستقرار الاجتماعي ويغذي الإحساس بالظلم.
ليست هذه المرة الأولى التي تواجه فيها تركيا اتهامات بانتهاكات واسعة على أيدي الشرطة والدرك، فخلال تسعينيات القرن الماضي وثقت منظمات حقوقية محلية ودولية استخدام التعذيب بشكل منهجي ضد المعتقلين السياسيين، ورغم الإصلاحات التي رافقت عملية انضمام تركيا المرشحة للاتحاد الأوروبي في العقد الأول من الألفية الجديدة، عادت الشكاوى لتتصاعد عقب محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، حيث استُخدمت قوانين الطوارئ لتبرير ممارسات واسعة من الاعتقال والتعذيب.
بحسب بيانات جمعية حقوق الإنسان التركية لعام 2024، تم تسجيل أكثر من 900 حالة تعذيب أو معاملة مهينة في أماكن الاحتجاز خلال عام واحد فقط، بينها 68 حالة وفاة مشبوهة، وتشير التقديرات إلى أن أقل من 5 في المئة من هذه القضايا تصل إلى المحاكم، وغالباً ما تنتهي دون إدانات رادعة.
اختبار مفصلي
تأتي محاكمة عناصر الدرك في هاتاي في وقت حساس بالنسبة لتركيا، حيث تواجه الحكومة ضغوطاً متزايدة من منظمات دولية وحقوقية لتحسين سجلها الحقوقي، خاصة في ظل تعثر مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
الحكم المتوقع في هذه القضية لن يكون مجرد حكم جنائي يتعلق بوفاة مواطن تحت التعذيب، بل رسالة سياسية وقانونية حول مدى استعداد أنقرة للالتزام بمبادئ سيادة القانون ومكافحة الإفلات من العقاب وإعلاء حقوق الإنسان.
وفي حال فشلت المحاكمة في إحقاق العدالة، فإنها قد تعمق أزمة الثقة بين المواطنين والدولة، وتزيد من عزلة تركيا على الساحة الدولية.