معاناة خلف الأسوار.. محكمة بريطانية تدين فشل "الداخلية" في حماية مهاجرين محتجزين
معاناة خلف الأسوار.. محكمة بريطانية تدين فشل "الداخلية" في حماية مهاجرين محتجزين
في قرار قضائي لافت يُعيد تسليط الضوء على أوضاع مراكز احتجاز المهاجرين في المملكة المتحدة، قضت محكمة عليا بريطانية بأن وزارة الداخلية انتهكت حقوق رجلين كانا محتجزين بموجب قوانين الهجرة، بعد فشلها في تقييم خطر تعرضهما لإيذاء النفس بشكل كافٍ ومستمر، ووصف الحكم ما جرى بأنه خلل ممنهج في نظام يفترض به حماية أكثر الفئات ضعفا داخل منظومة الاحتجاز.
القضية لا تتعلق فقط بحالتين فرديتين في بريطانيا، بحسب ما أورده موقع "عرب لندن" الثلاثاء، بل تفتح نقاشا أوسع حول مسؤولية الدولة في رعاية المحتجزين نفسيا وجسديا، خاصة أولئك الذين يحملون تاريخا من التعذيب والصدمات النفسية، ويجدون أنفسهم فجأة خلف الأسوار في انتظار قرارات إدارية قد تمتد لأشهر طويلة.
مراكز احتجاز مثيرة للجدل
المحتجزان المشار إليهما في الحكم القضائي عرفت هويتهما بالحرفين AH وIS لأسباب قانونية، كلاهما احتجز في مركز بروك هاوس للهجرة الواقع بالقرب من مطار غاتويك، أحد أكثر مراكز الاحتجاز إثارة للجدل في بريطانيا.
احتجز AH خلال فترة امتدت من ديسمبر 2023 إلى مارس 2024، وقد دخل المملكة المتحدة بشكل غير قانوني في عام 2023، وأبلغ السلطات فور احتجازه بأنه سبق أن تعرض للتعذيب في بلده الأصلي، وأنه يعاني من مشكلات نفسية حادة، بينها أفكار انتحارية وسماع أصوات، وخلال فترة احتجازه أقدم على إيذاء نفسه عدة مرات، بما في ذلك قطع جسده، في مؤشرات واضحة على تدهور حالته النفسية.
أما IS فقد دخل المملكة المتحدة بشكل قانوني، لكنه تلقى إشعار ترحيل من وزارة الداخلية عقب إدانته بالاعتداء الجنسي في عام 2015، ورغم نجاحه لاحقا في الطعن على احتجازه أمام المحكمة العليا، أعيد احتجازه في يوليو 2023 وبقي محتجزا حتى يناير 2024، وخلال تلك الفترة حاول إيذاء نفسه ثلاث مرات، في حوادث موثقة أثارت قلق العاملين في المركز.
دعوى ضد وزارة الداخلية
في عام 2024، رفع الرجلان دعوى قضائية ضد وزارة الداخلية البريطانية، مؤكدين أن احتجازهما كان غير قانوني وأن السلطات فشلت في الالتزام بالقواعد الخاصة باحتجاز البالغين الذين يعانون من مشكلات في الصحة النفسية، وطلبا من المحكمة أن تقر بأن النظام المتبع ينتهك التزامات الوزارة بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تحظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية أو المهينة.
ركزت الدعوى على أن تقييمات المخاطر كانت شكلية وغير كافية، وأن حوادث إيذاء النفس لم تؤدِ إلى مراجعة شاملة لوضع المحتجزين أو إلى اتخاذ تدابير وقائية إضافية، رغم وضوح الخطر واستمراره.
في المقابل، رفضت وزارة الداخلية هذه الادعاءات، مؤكدة أن تقييمات الصحة النفسية كانت تجرى بشكل مناسب، وأن الإجراءات المتبعة تراعي الإطار القانوني والتنظيمي المعمول به في مراكز الاحتجاز.
حكم حاسم وانتقادات
في حكمها، قدّمت القاضية جيفورد قراءة شديدة النقد لأداء وزارة الداخلية والنظام المعتمد في مراكز الاحتجاز البريطانية، وقالت إن هناك صورة واضحة ومستمرة لفشل النظام المصمم لحماية المحتجزين من الانتهاكات عبر سوء المعاملة، سواء كانت مباشرة أو ناتجة عن الإهمال.
وأوضحت القاضية أن حوادث إيذاء النفس لدى المحتجزين كانت تدرس بشكل منفصل، من دون النظر إلى السياق العام أو الخطر التراكمي، ما يعني أن النظام لم يتحرك بشكل استباقي رغم وجود مؤشرات متكررة على تدهور الحالة النفسية للرجلين.
وأضافت أن التحقيقات التي بدأت في عام 2019 بشأن سوء المعاملة في مركز بروك هاوس كشفت أن عدد التقارير المقدمة من الأطباء كان منخفضا للغاية مقارنة بحجم المشكلات النفسية المسجلة، وهو ما يشير إلى خلل بنيوي في آليات الرصد والتدخل، واعتبرت أن تجربتي AH وIS تمثلان نموذجا صارخا لهذا الفشل المستمر.
تعويضات محتملة ومسؤولية
من أبرز ما جاء في الحكم، تأكيد القاضية أن الاحتجاز غير القانوني لـ AH يعني أن أي استخدام للقوة ضده خلال تلك الفترة يعد اعتداء من الناحية القانونية، ويفتح هذا التوصيف الباب أمام مطالبات بتعويضات مالية، ليس فقط عن الاحتجاز غير المشروع، بل أيضا عن الأضرار النفسية والجسدية التي لحقت به.
ويرى خبراء قانونيون أن هذا الحكم قد يشكل سابقة مهمة، يمكن أن تشجع محتجزين آخرين على رفع دعاوى مماثلة، خاصة أولئك الذين يعانون من مشكلات نفسية موثقة ولم يحصلوا على الرعاية اللازمة أثناء الاحتجاز.
انعكاسات إنسانية أوسع
بعيدا عن الجوانب القانونية، يعكس هذا الحكم مأساة إنسانية يعيشها كثير من المهاجرين المحتجزين، الذين يصلون إلى بريطانيا هربا من العنف أو التعذيب، ليجدوا أنفسهم في بيئة مغلقة تزيد من صدماتهم بدلا من معالجتها، ويشير مختصون في الصحة النفسية إلى أن الاحتجاز الطويل، في ظل غياب الدعم النفسي الكافي، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الاضطرابات النفسية وزيادة خطر الانتحار وإيذاء النفس.
وتجدد القضية الدعوات إلى اعتماد بدائل للاحتجاز، خاصة للأشخاص المصنفين على أنهم عرضة للخطر، مثل ضحايا التعذيب أو من يعانون من اضطرابات نفسية حادة.
يعد مركز بروك هاوس أحد مراكز احتجاز الهجرة الرئيسية في المملكة المتحدة، وقد خضع لانتقادات واسعة خلال السنوات الماضية بسبب مزاعم سوء المعاملة والإهمال الطبي، وفي عام 2017، أثار تحقيق صحفي تلفزيوني جدلا كبيرا بعد الكشف عن مشاهد لإساءة معاملة محتجزين، ما دفع الحكومة إلى فتح تحقيقات رسمية بدأت في عام 2019.
وبموجب القوانين البريطانية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، تلتزم وزارة الداخلية بضمان أن يكون احتجاز المهاجرين إجراء استثنائيا، وأن يتم تقييم حالتهم الصحية والنفسية بشكل دوري، مع الإفراج عن أي شخص يشكل احتجازه خطرا على سلامته، كما تنص السياسات الرسمية على توفير حماية خاصة للبالغين المعرضين للخطر، بمن فيهم ضحايا التعذيب.
غير أن تقارير منظمات حقوقية تؤكد أن هذه الالتزامات كثيرا ما تبقى حبرا على ورق، وأن مراكز الاحتجاز تعاني نقصا في الكوادر الطبية المتخصصة، وضعفا في التنسيق بين الجهات المعنية، ويأتي هذا الحكم القضائي ليعيد التأكيد على أن الإخفاق في حماية المحتجزين لا يشكل فقط انتهاكا أخلاقيا، بل أيضا خرقا قانونيا قد يترتب عليه ثمن باهظ للدولة، ماديا وإنسانيا.











