دعوات لتطوير أنظمة الإنذار المبكر.. كارثة ترسين تكشف وجه المناخ المتطرف في السودان
دعوات لتطوير أنظمة الإنذار المبكر.. كارثة ترسين تكشف وجه المناخ المتطرف في السودان
بينما يستيقظ الأهالي القاطنون سفوح جبل مرة في دارفور على وقع أمطار غزيرة، تتحول السماء إلى مصدر خوف قاتل، إذ اجتاحت السيول والانهيارات الأرضية المنطقة، وخلفت وراءها عشرات القتلى والجرحى، ودماراً واسعاً في المنازل والطرق والمزارع، ورغم أن السكان اعتادوا تقلبات الطقس، فإن ما حدث في قرية ترسين بدا مختلفاً في شدته وآثاره، حتى وصفه بعض الشهود بأنه "طوفان لم تعرفه القرية من قبل".
هذه المأساة دفعت الهيئة العامة للأرصاد الجوية في السودان إلى إجراء تحليل علمي دقيق، كشف أن ما جرى في ترسين لم يكن حادثاً عرضياً، بل نتيجة مباشرة لظواهر مناخية متطرفة تفرضها التغيرات المناخية العالمية.
ثلاثة عوامل وراء المأساة
قال أبو القاسم إبراهيم إدريس، رئيس وحدة الإنذار المبكر بالهيئة، في تصريحات نشرتها صحيفة "الراكوبة" السودانية، السبت، إن تحليل بيانات الأقمار الصناعية الممتدة على مدى اثنين وأربعين عاماً أظهر أن ثلاثة عوامل أساسية اجتمعت لتصنع الكارثة.
العامل الأول تمثل في هطول أمطار استثنائية تجاوزت بنسبة خمسين في المئة أقوى العواصف التي شهدتها المنطقة عبر تاريخها المسجل، أما العامل الثاني فكان تشبع التربة بالمياه نتيجة موسم مطير غزير سبق الحادثة بثلاثة أيام، ما جعل الأرض عاجزة عن امتصاص المزيد من المياه، في حين ارتبط العامل الثالث بالتركز الجغرافي الكثيف للهطول المطري الذي وقع مباشرة فوق منطقة جبل مرة، فحوّل المنحدرات الجبلية إلى مجارٍ للسيول والانهيارات.
أكدت الهيئة أن هذه النتائج تنفي وصف الحادثة بأنها "نادرة"، وقالت إن ما وقع يعكس واقعاً جديداً تفرضه التحولات المناخية، حيث باتت الظواهر الجوية القصوى أكثر تواتراً وحدة، هذا التوصيف العلمي يضع السودان أمام تحديات كبيرة تتجاوز حدود الاستجابة الطارئة إلى ضرورة بناء خطط استراتيجية طويلة المدى لمواجهة آثار تغير المناخ.
دعوة لتطوير أنظمة الإنذار
في ضوء هذه النتائج، دعت الهيئة العامة للأرصاد الجوية في السودان إلى تطوير نظام إنذار مبكر متكامل يربط بين البيانات الجوية والهيدرولوجية والجيولوجية، وأكدت أهمية تفعيل هذا النظام بالتنسيق مع جهاز الدفاع المدني والمجتمعات المحلية؛ حتى يتمكن السكان من تلقي التحذيرات في الوقت المناسب والاستعداد لمواجهة المخاطر، كما شددت على ضرورة إعداد خرائط دقيقة لمخاطر الانهيارات الأرضية والفيضانات، خاصة في مناطق جبل مرة وجبال النوبة، التي تتميز بطبيعتها الجغرافية الهشة وكثافة التجمعات السكانية.
ووراء كل رقم ورد في تقارير الأرصاد أو المنظمات الإنسانية قصة إنسانية موجعة، ففي ترسين، فقدت عائلات بأكملها منازلها ومصادر رزقها، واضطر مئات الناجين إلى النزوح نحو قرى ومخيمات مجاورة، وبينما يحاول السكان جمع ما تبقى من متاعهم، يقف النساء والأطفال في الصفوف الأولى لمواجهة تبعات الكارثة من فقدان المأوى وانتشار الأمراض.
يقول أحد سكان القرية إن الأمطار لم تمنحهم فرصة للهرب: "خلال أقل من ساعة، غمرت المياه بيوتنا الطينية، وانهارت الجدران فوق رؤوسنا"، شهادات كهذه تعكس كيف يتحول تغير المناخ من مصطلح علمي متداول في المؤتمرات إلى واقع ملموس يهدد حياة الناس بشكل مباشر.
كارثة ترسين ليست سوى حلقة في سلسلة من الكوارث المناخية التي ضربت السودان خلال السنوات الأخيرة، فقد شهدت البلاد فيضانات متكررة أغرقت العاصمة الخرطوم ومدناً أخرى، وتسببت في نزوح آلاف الأسر، فضلاً على تدمير مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ومع محدودية الموارد والبنية التحتية الضعيفة، يجد السودان نفسه في مواجهة أزمات متشابكة تجمع بين آثار النزاعات المسلحة، والتدهور الاقتصادي، والتغيرات المناخية.
تغير المناخ.. أزمة كوكبية
يُعرّف العلماء تغير المناخ بأنه التحولات طويلة الأمد في درجات الحرارة وأنماط الطقس نتيجة انبعاثات الغازات الدفيئة التي يسببها النشاط البشري، ومع تراكم هذه الانبعاثات في الغلاف الجوي، ترتفع درجة حرارة الأرض، ما يؤدي إلى ظواهر متطرفة تشمل الفيضانات والجفاف والعواصف والانهيارات الأرضية.
وتشير تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أن إفريقيا تُعد من أكثر القارات تضرراً رغم أنها الأقل إسهاماً في الانبعاثات الكربونية العالمية، ويضع ذلك دولاً مثل السودان أمام تحمل عبء أزمة لم تكن سبباً رئيساً فيها.
وفي السودان، تتجلى آثار تغير المناخ بشكل خاص في قطاعات الزراعة والمياه. فالتقلبات المناخية تتسبب في تراجع الإنتاج الزراعي الذي يعتمد عليه أكثر من 70 في المئة من السكان، كما تزيد من احتمالات انتشار الأوبئة بسبب تلوث مصادر المياه، ويشير خبراء محليون إلى أن استمرار هذه الاتجاهات قد يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي الذي يعاني منه ملايين السودانيين.
مسؤولية المجتمع الدولي
تثير كارثة ترسين أسئلة ملحّة حول مدى التزام المجتمع الدولي بدعم الدول النامية في مواجهة آثار تغير المناخ، ففي وقت تعقد فيه القمم الدولية وتُعلن التعهدات بخفض الانبعاثات، يظل تمويل مشروعات التكيف ضعيفاً مقارنة بحجم الحاجة، ويؤكد خبراء الأمم المتحدة أن تعزيز أنظمة الإنذار المبكر وتطوير البنية التحتية المقاومة للمناخ لا يمكن أن يتحقق دون دعم مالي وتقني من الدول المتقدمة.
ويدرك السودانيون أن مواجهة الكوارث المناخية ليست خياراً بل ضرورة وجودية، ويقول أبو القاسم إدريس إن "الدرس المستفاد من ترسين هو أن الوقت لم يعد يسمح بالتأجيل، وأن كل يوم يمر دون تطوير منظومات حماية فعالة يعرض مزيداً من الأرواح للخطر"، هذه الكلمات تلخص جوهر المعركة ضد تغير المناخ: معركة لا تنحصر في غرف المفاوضات الدولية، بل تدور رحاها في القرى والجبال والسهول حيث يعيش الناس البسطاء.
يُعد السودان من أكثر الدول عرضة لتأثيرات تغير المناخ في إفريقيا، حيث يتأثر بالفيضانات المتكررة، وموجات الجفاف، والانهيارات الأرضية، وقد صنفته تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ضمن الدول الخمس الأكثر هشاشة مناخياً في العالم. وتقدر الأمم المتحدة أن أكثر من نصف سكان البلاد يواجهون مستويات مختلفة من انعدام الأمن الغذائي المرتبط بشكل مباشر بالاضطرابات المناخية.
وعلى المستوى العالمي، تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن درجات الحرارة قد ترتفع بمعدل 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2030 إذا استمرت الانبعاثات الحالية، ما سيضاعف من احتمالات الكوارث المناخية. وللتخفيف من هذه المخاطر، تدعو منظمات دولية إلى الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتعزيز مشروعات التكيف مثل أنظمة الإنذار المبكر وإدارة الموارد المائية، إضافة إلى إشراك المجتمعات المحلية في بناء حلول مستدامة.