بين الاحتجاز والقرارات الموحدة.. معاناة آلاف المهاجرين في اليونان تحت مجهر حقوق الإنسان
بين الاحتجاز والقرارات الموحدة.. معاناة آلاف المهاجرين في اليونان تحت مجهر حقوق الإنسان
قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بوقف عمليات الترحيل من اليونان دون دراسة حالة المهاجرين يمثل محطة فارقة في مسار أزمة اللجوء والهجرة بالمتوسط، والتي جاءت استجابة لطلبات عاجلة تقدمت بها منظمات حقوقية، أبرزها "دعم اللاجئين في بحر إيجه" (RSA)، والتي وثّقت حالات لمهاجرين تم احتجازهم وإصدار أوامر بترحيلهم عبر نماذج موحدة لا تراعي أوضاعهم الفردية ولا المخاطر التي قد يواجهونها في بلدانهم الأصلية أو بلدان العبور.
في منتصف يوليو، علّقت الحكومة اليونانية لمدة ثلاثة أشهر استقبال طلبات اللجوء من القادمين عبر شمال إفريقيا، معظمهم عبر ليبيا، وفق ما أورده موقع شبكة ECRE الحقوقية، واستهدف القرار بالأساس الوافدين إلى كريت وغافدوس، حيث سجلت السلطات ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد الواصلين خلال العامين الماضيين، وبدلاً من دراسة كل حالة، أصدرت وزارة الداخلية أوامر إبعاد فورية، وهذه القرارات جاءت مشابهة لخطوة اتخذت عام 2020 حين منعت اليونان طلبات اللجوء مؤقتاً، وهو ما اعتُبر حينها إجراء غير قانوني.
الظروف داخل مراكز الاحتجاز
المهاجرون الذين وصلوا اليونان بعد رحلات بحرية خطرة نُقلوا إلى مراكز احتجاز مغلقة في اليابسة، وكشفت شهادات من مركز أميجداليزا قرب أثينا أوضاعاً قاسية منها وجود حاويات تالفة بلا ماء أو كهرباء أو تهوية، ونقص في الملابس النظيفة، وحرمان من الاستحمام في حرارة الصيف، وانقطاع شبه كامل عن العالم الخارجي، وهذا الحرمان ترافق مع غياب كامل لبرامج المساعدة القانونية المجانية، رغم أن التشريعات الأوروبية تلزم الدول الأعضاء بتوفيرها.
منظمات حقوقية رفعت دعاوى عاجلة أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وفي 14 أغسطس الماضي، أصدرت المحكمة قراراً يسمح لثمانية لاجئين سودانيين بالبقاء في اليونان لحين البت في طلباتهم. بعد أسبوعين، جاء قرار ثانٍ لصالح أربعة لاجئين إريتريين، مؤكداً حقهم في استكمال إجراءات اللجوء، واعتبرت القرارات بمثابة اعتراف قضائي بأن الترحيل دون دراسة فردية يعرض المهاجرين لمخاطر جسيمة في بلدان تشهد نزاعات مثل السودان واليمن وإريتريا.
ردود الفعل المحلية والدولية
القرارات أثارت جدلاً واسعاً، وانضمت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في اليونان، وجمعية القضاة الإداريين، ومسؤولون من وزارة الهجرة إلى انتقادات المجتمع المدني، ودعا كل من مفوض حقوق الإنسان في مجلس أوروبا ووكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أثينا لاحترام التزاماتها الدولية، وبالمقابل، التزمت المفوضية الأوروبية صمتاً نسبياً، مكتفية بإعلان أنها "تراقب الوضع"، ما فُسّر من جانب الحكومة اليونانية كنوع من الدعم الضمني لقرارها.
في خضم هذه الأزمة، اتجهت الحكومة لتشديد الرقابة على المنظمات غير الحكومية العاملة في قضايا اللجوء، ملوّحة بشطب بعضها من السجلات الرسمية، وحذرت منظمات مثل RSA من أن هذه السياسات تضعف المجتمع المدني وتقلص قدرته على تقديم الدعم القانوني، مما يترك آلاف المهاجرين بلا سند قانوني.
البعد القانوني والإنساني
اتفاقية جنيف لعام 1951 واتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية تلزمان الدول بعدم إعادة أي شخص إلى بلد قد يتعرض فيه لخطر التعذيب أو الاضطهاد، ويتعارض منع طلبات اللجوء بالجملة وإصدار أوامر إبعاد موحدة مع هذه الالتزامات.
المنظمات الحقوقية أكدت أن الممارسات الحالية تمثل "انتهاكاً صارخاً لمبدأ عدم الإعادة القسرية"، أحد الركائز الأساسية في القانون الدولي للاجئين.
من ذروة 2015 إلى اليوم
وفق بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وصل إلى اليونان عبر البحر أكثر من 47 ألف شخص عام 2023، بزيادة تقارب 60% عن عام 2022، نسبة كبيرة منهم من سوريا وأفغانستان والسودان، وخلال النصف الأول من 2025، استقبلت الجزر اليونانية أكثر من 20 ألف مهاجر، نصفهم تقريباً نساء وأطفال، وهذه الأعداد، وإن كانت أقل بكثير من ذروة 2015، ما زالت تمثل تحدياً للقدرة الاستيعابية للمخيمات والبنية التحتية.
شهدت اليونان عام 2015 وصول أكثر من 850 ألف لاجئ، ما جعلها بوابة رئيسية لأوروبا، و خفّض اتفاق الاتحاد الأوروبي مع تركيا عام 2016 الأعداد بشكل ملحوظ، لكنه أبقى عشرات الآلاف محتجزين في مخيمات مكتظة على الجزر. منذ ذلك الحين، ظلت أثينا تعتمد سياسات صارمة للحد من تدفق اللاجئين، متأرجحة بين الالتزامات الأوروبية وضغوط الداخل.
التداعيات الإنسانية
سياسات الترحيل السريع تترك آثاراً نفسية وإنسانية عميقة على المهاجرين، وتجد عائلات تصل بعد شهور من المعاناة نفسها محتجزة بلا حقوق أساسية، أطفال محرومون من التعليم والرعاية الصحية، نساء عرضة للعنف والاستغلال، ورجال مهددون بالترحيل إلى مناطق نزاع، قرارات المحكمة الأوروبية، رغم طابعها المؤقت، منحت بعض الأمل، لكنها سلطت الضوء أيضاً على أزمة أوسع في نظام الحماية الأوروبي.
القرار الأخير للمحكمة الأوروبية لا يحل الأزمة، لكنه يشكل رسالة واضحة مفادها أن احترام الحق في اللجوء ليس خياراً سياسياً بل التزام قانوني وإنساني، فاستمرار تعليق طلبات اللجوء وترحيل المهاجرين دون دراسة فردية يهدد بتقويض سيادة القانون في الاتحاد الأوروبي بأكمله، وتستدعي الحلول المستدامة إعادة نظر جذرية في سياسات الاستقبال، وتعزيز دعم الاتحاد الأوروبي لليونان، وضمان أن تكون حقوق الإنسان في صميم إدارة الحدود والهجرة.