رسالة مسربة... إيران من الداخل
رسالة مسربة... إيران من الداخل
الكتابة من طهران ليست توصيفاً جغرافياً بل كشف عن طبقات بلد يتشكل بين سياسة النظام وصوت المجتمع. كتاب "أكتب لكم من طهران" يضع القارئ أمام صورة داخلية مجسدة حيث تتقاطع السياسة مع تفاصيل العيش اليومي.
لم يصل الكتاب إلى العربية عام 2019 كمجرد ترجمة لعمل صدر بالفرنسية قبل عقد بل كوثيقة سياسية وثقافية تعيد رسم صورة إيران بعيداً من الروايات الرسمية أو التصورات النمطية.
الكتاب صدر أولاً بالفرنسية عن دار غاليمار عام 2009 ثم تُرجم إلى العربية عن دار الساقي مما أتاح له الانتقال من فضاء الاستقبال الأوروبي إلى فضاء القارئ العربي، كذلك فإن المؤلفة دلفين مينوي الفرنسية - الإيرانية ابنة أب منفي وأم فرنسية لم تكتب كشاهدة محايدة بل بصفتها صحافية عملت في الشرق الأوسط أعواماً طويلة ومزجت تجربتها الشخصية بخبرة ميدانية جعلت من النص شهادة مزدوجة على الذاكرة والسياسة، إذ حازت دلفين مينوي جائزة ألبير لوندر عام 2006 وهي أرفع الجوائز الصحافية في فرنسا وما زالت تكتب في لوفيغارو عن قضايا إيران والشرق الأوسط مما يمنح شهادتها في كتابها عمقاً إضافياً وحقيقة قريبة من الواقع.
منذ اللحظة الأولى يبدو الكتاب رسالة مسرّبة أكثر منه عملاً أدبياً كأن القارئ يتلقى شهادة حية من داخل طهران، حيث كل تفصيلة يومية تعكس جدلية العلاقة بين الفرد والدولة. العنوان نفسه "أكتب لكم من طهران" يختصر التوتر بين ما يُسمح بكتابته وما يُكتم وبين ما يظهر للعيان وما يُقال همساً في المقاهي أو البيوت المغلقة. النص لا يشبه رسائل خاصة بل أقرب إلى محاولة لفهم نظام سياسي واجتماعي تتداخل فيه حكاية الفرد مع مصير الجماعة.
الكتاب يفتتح ذاكرته من بيت عائلة الأب في المنفى حيث يمثل ذاكرة مثقلة بالخسارة والابنة في طهران تعيش واقعاً يومياً متشظياً بين الاثنين. تتحرك الحكاية من الحرب العراقية - الإيرانية إلى العقوبات ومن شعارات الثورة إلى قلق الجيل الجديد. هذه الثنائية تمنح النص عمقاً سياسياً يتجاوز الاعترافات الشخصية، إذ يظهر المنفى لا كحال فردية بل كرمز لقطيعة تاريخية لم تلتئم بعد، بينما تجسّد الابنة صورة المجتمع المرهق من التناقضات.
تميز الكتاب بأنه لا يعرض السياسة كأفكار نظرية بل كأمور يواجهها الناس في حياتهم اليومية فهناك الطابور الطويل أمام المخبز الذي يصبح تجسيداً للسياسات الاقتصادية. وهناك الرقابة على الحجاب التي تعكس حدود سلطة الدولة وهناك النكتة المتداولة في المقهى التي تتحول إلى مؤشر إلى المزاج العام.
قوة الكتاب تكمن في عرضه السياسة كما هي في الواقع لا كخطب أو أرقام بل كحياة يعيشها الناس تحت المراقبة والحصار. في تقديري هذا ما يجعل الكتاب مختلفاً عن الأعمال الأخرى التي تناولت إيران من الداخل. ومن هنا تجدر الإشارة إلى مقارنته بأعمال أخرى مثل "قراءة لوليتا في طهران" لآذر نفيسي لكن مع اختلاف جوهري أن نص مينوي أقل تنظيراً وأكثر التصاقاً بالحياة اليومية.
النساء يحتللن موقع القلب في النص ليس بوصفهن موضوعاً لخطاب نسوي بل كقوة فاعلة في إعادة صياغة الفضاء العام. الطالبة الجامعية التي تجادل أستاذها. الأم التي تبتكر حلولاً لتجاوز البيروقراطية والفتاة التي تمشي في شوارع طهران بسماعة موسيقى غربية خلسة. كلها شواهد على أن التغيير الاجتماعي في إيران تقوده النساء عبر تفاصيل صغيرة تراكمت حتى صارت مقاومة صامتة، بهذا المعنى يقدم الكتاب المرأة الإيرانية كفاعل سياسي يومي مؤثر لا يقل عن السياسات الكبرى.
الكتاب يرسم طهران كمدينة بوجهين: في النهار تخضع لرقابة شديدة وفي الليل تبحث عن متنفس. هذا الانقسام يعكس البنية العميقة للجمهورية الإسلامية، دولة تريد أن تُبقي قبضتها محكمة، ومجتمع يبتكر باستمرار طرقاً للتنفس. قراءة هذه الصورة اليوم تُظهر أن التناقضات لم تخمد بل اتسعت، فإذا كان جيل العقد الأول من القرن قد اكتفى بالبحث عن مساحات شخصية للتنفس فإن جيل العقد الحالي يواجه الدولة علناً في الشارع مستخدماً لغة الاحتجاج المباشر بدل الرموز الهامسة وهذا ما ظهر جلياً في احتجاجات 2022 بعد وفاة مهسا أميني، حين خرجت النساء والشباب إلى الشارع بلغة مباشرة لا تقتصر على الرموز.
لكن الكتاب أيضاً لا يخلو من ثغرات، فصوت المؤلفة يبقى صوت العاصمة لا صوت الريف ولا صوت الطبقة الوسطى ولا الطبقات الأفقر وهو منظور يضيّق العدسة على حساب تنوع المجتمع الإيراني. مع ذلك هذا القيد ذاته يكشف قيمة الكتاب فهو شهادة شخصية لا تدّعي الشمولية لكنها تضيء على زاوية غالباً ما تُغفل في التحليلات السياسية، أي كيف يتعامل الفرد مع سلطة الدولة في حياته اليومية. هنا يظهر الفرق بين الأمس واليوم. كان الفرد يحاول التكيف مع السلطة أما الآن فبات يواجهها بطرق جديدة أكثر جرأة.
قراءة هذا العمل بعد أكثر من عقد تمنحه بعداً إضافياً، فالمشاهد التي وصفتها مينوي عام 2009 تجد امتدادها المباشر في احتجاجات 2022 وما تلاها. الضحكة الساخرة في مقهى الأمس تحولت إلى شعارات علنية في الشوارع وتلاعب النساء بألوان الحجاب بالأمس صار فعلاً سياسياً مباشراً في الراهن. تقول في إحدى الصفحات "قال أحد الإيرانيين الذين التقيتهم في طهران، في جلسة بين أبناء الطبقة الوسطى داخل مقهى مغلق: في عهد الشاه كنّا نشرب علناً ونصلي سرّاً، أما اليوم في ظل الجمهورية الإسلامية، فأصبحنا نشرب سرّاً ونصلي علناً".
هنا تكمن أهمية الكتاب بكشفه أن طهران ليست مجرد عاصمة لإيران الرسمية بل وجه خفي لإيران غير المقروءة، إيران التي تتشكل داخل البيوت والمقاهي والجامعات أكثر مما تُصاغ في المؤسسات السياسية. ولعل ما يحدث اليوم في طهران من الداخل يمنح هذا الكتاب حياة جديدة لم يكن ليتخيلها قارئه الأول.
خلاصة الكتاب أن إيران ليست لغزاً بل بلد يعيش كل يوم مقايضة مستمرة بين مجتمع حي وسلطة متصلبة. هنا يكتسب الكتاب قيمته السياسية الأعمق، إنه يذكّر بأن السياسة لا تقتصر على المفاوضات النووية أو العقوبات الدولية بل تتجسد أولاً في تفاصيل الناس من المطبخ، من قاعة الجامعة، ومن الطابور أمام المخبز.
وحين نغلق الكتاب لا يخيّل إلينا أننا انتهينا من قراءة شهادة، بل إننا دخلنا إلى نص ما زال يُكتب حتى اللحظة. طهران التي كتبت منها مينوي ليست ماضياً مغلقاً بل حاضر مفتوح يعيد صياغة نفسه باستمرار، والدهشة أن ما يخرج من قلب هذه المدينة لا يقدّم للعالم مجرد حكاية عن بلد محاصر بالحروب والعقوبات الدولية بل عن مجتمع يعيد كتابة نفسه يومياً، فإيران التي تُختزل غالباً في صراعها النووي أو أزماتها الدبلوماسية تكشف عبر طهران الداخلية وجهاً آخر حيث مدينة متناقضة لكنها نابضة ومُنهكة.
نقلاً عن إندبندنت عربية