عندما تلتهم الأسعار قوت الفقراء.. تداعيات إنسانية تتفاقم مع رسوم ترامب الجمركية

عندما تلتهم الأسعار قوت الفقراء.. تداعيات إنسانية تتفاقم مع رسوم ترامب الجمركية
فقراء ومهمشون في الولايات المتحدة

أظهرت دراسة حديثة نشرتها صحيفة "نيويورك بوست" الأمريكية الجمعة أن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد تدفع ما يقرب من مليون مواطن أمريكي إلى براثن الفقر، وأوضحت التقديرات التي قدمها "مختبر الميزانية" في جامعة ييل أن استمرار الرسوم بعد البت فيها من المحكمة العليا سيؤدي إلى زيادة عدد الفقراء بنحو 875 ألف شخص، وتأتي هذه الأرقام في وقت يعيش فيه أصلاً أكثر من 36 مليون أمريكي تحت خط الفقر، بحسب مكتب الإحصاء الفيدرالي.

الأثر المباشر في الأسر محدودة الدخل

الرسوم الجمركية التي رفعت متوسط التعريفة الفعلية إلى 17.4 في المئة، وهو أعلى مستوى منذ عام 1935، انعكست مباشرة على القوة الشرائية للأسر، والأسر منخفضة الدخل هي الأكثر تضرراً، إذ تنفق جزءاً أكبر من ميزانيتها على سلع أساسية مستوردة مثل الملابس والإلكترونيات والأجهزة المنزلية، وبحسب ليانا هاكونز، رئيسة شركة بلاك هوك فايننشال، فإن هذه الأسر "تعيش يوماً بيوم، ولا تملك هامشاً لتحمل زيادات إضافية في الأسعار".

جدل اقتصادي وسياسي

البيت الأبيض لم يتأخر في الرد على نتائج الدراسة، فقد اعتبر المتحدث الرسمي كوش ديساي أن "اقتصاديي بايدن" يكررون تنبؤات متشائمة سبق أن فشلت في الماضي، مشيراً إلى أن سياسات ترامب خلال ولايته الأولى أدت إلى نمو تاريخي في الوظائف وتراجع عدم المساواة، لكن باحثي جامعة ييل ردوا بأن الوضع مختلف اليوم، فالتضخم لا يزال ضاغطاً، والرسوم قد تعيد إشعال موجات جديدة من ارتفاع الأسعار.

الفقر بين المقياس الرسمي والمقياس التكميلي

بحسب المقياس الرسمي للفقر، سترتفع النسبة من 10.4 في المئة إلى 10.7 في المئة إذا استمرت الرسوم الجمركية، وهو ما يعني دخول قرابة 875 ألف شخص إضافي دائرة الفقر، أما باستخدام المقياس التكميلي، الذي يأخذ في الاعتبار برامج الدعم الحكومي ونفقات المعيشة، فإن عدد الفقراء قد يزيد بـ650 ألف شخص إضافي بحلول عام 2026، من بينهم 150 ألف طفل، هذه الزيادة سترفع معدل الفقر من 12 إلى 12.2 في المئة، وهو ما يعكس هشاشة أوضاع الشرائح الأضعف اجتماعياً.

التداعيات الإنسانية: فقراء في مواجهة العاصفة

التداعيات الإنسانية لهذه السياسات تتجاوز الأرقام، فالأسر الفقيرة التي بالكاد تكافح لتأمين الغذاء والمسكن والرعاية الصحية قد تجد نفسها مضطرة إلى التخلي عن احتياجات أساسية، في بلد يُعَد من أكبر اقتصادات العالم، يبدو أن ملايين المواطنين مهددون بفقدان القدرة على تلبية ضروريات حياتهم اليومية، والأطفال على وجه الخصوص يواجهون مخاطر إضافية، من سوء التغذية إلى تراجع فرص التعليم والرعاية الصحية.

ردود الفعل الحقوقية والدولية

منظمات حقوقية محلية ودولية أبدت قلقها من التداعيات، حيث اعتبر الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية أن الرسوم الجمركية قد تتحول إلى "ضريبة غير مباشرة" على الفقراء، أما منظمة أوكسفام الدولية فدعت واشنطن إلى مراجعة سياستها التجارية بما ينسجم مع الالتزامات الدولية المتعلقة بالحق في الغذاء والعيش الكريم. في الوقت ذاته، حذرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان من أن أي سياسات اقتصادية يجب أن تراعي أثرها غير المتكافئ في الفئات الهشة.

انعكاسات على الأسواق العالمية

الرسوم لم تؤثر فقط في الداخل الأمريكي، بل أحدثت هزات في سلاسل التوريد العالمية، وقد رد كل من الصين والاتحاد الأوروبي، أكبر المستهدفين بهذه السياسات، بإجراءات مضادة، ما زاد من تكلفة الواردات الأمريكية، وتؤدي هذه الحلقة المفرغة من الرسوم والرسوم المضادة في النهاية إلى رفع الأسعار داخل الولايات المتحدة، ليكون الفقراء هم الخاسر الأكبر.

الحمائية في أمريكا

سياسات الرسوم الجمركية ليست جديدة في الولايات المتحدة، فقد بلغت ذروتها في ثلاثينيات القرن الماضي مع قانون سموت-هاولي الذي أدى إلى ركود عالمي عميق، ومنذ ذلك الحين، تبنت واشنطن نهجاً أكثر انفتاحاً عبر اتفاقيات مثل "الجات" ثم "منظمة التجارة العالمية"، لكن عودة ترامب إلى استخدام الرسوم أداة سياسية واقتصادية أعادت التذكير بتجارب تاريخية أثبتت أن الخاسر الأكبر غالباً ما يكون المواطن العادي.

المحكمة العليا والجدل القانوني

القضية الآن بين يدي المحكمة العليا الأمريكية التي تنظر في قانونية فرض هذه الرسوم، وكانت محكمة أدنى درجة قد اعتبرت أن ترامب تجاوز سلطاته، ما يفتح الباب أمام احتمال إلغاء 71 في المئة من هذه الرسوم، والقرار المرتقب ستكون له تداعيات واسعة: فإما أن يعزز توجهات الإدارة في حماية الصناعات المحلية على حساب المستهلكين، أو أن يضع حداً لهذه السياسات المثيرة للجدل.

التحديات المستقبلية

حتى لو ألغيت بعض الرسوم، فإن النقاش حول التوازن بين حماية الصناعات المحلية ومصالح المستهلكين سيبقى قائماً، الولايات المتحدة تواجه اليوم مفترق طرق: إما الانخراط في نظام تجاري عالمي أكثر انفتاحاً وعدالة، أو الاستمرار في سياسات حمائية تزيد من الأعباء على الفئات الأكثر هشاشة وانتهاك حقوقها الإنسانية.

وفقاً لمكتب الإحصاء الأمريكي، بلغ معدل الفقر في الولايات المتحدة 10.6 في المئة نهاية العام الماضي، وهو أدنى مستوى منذ سنوات، لكن هذا التحسن كان هشاً. فقد ساعدت برامج الدعم الحكومي أثناء جائحة كورونا على تخفيف الفقر، غير أن توقف معظمها، إلى جانب الضغوط التضخمية، جعل الملايين على حافة العودة إلى الفقر.

القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يضمن لكل شخص الحق في مستوى معيشي لائق بما في ذلك الغذاء والكساء والسكن، وعليه، فإن أي سياسات اقتصادية تؤدي إلى تآكل هذه الحقوق يمكن اعتبارها انتهاكاً لالتزامات الدولة.

في هذا السياق، تشكل الرسوم الجمركية أداة مزدوجة قد تحمي الصناعات المحلية وتخلق وظائف، لكنها قد تدفع في المقابل شرائح واسعة إلى الهشاشة، وبين هاتين الكفتين، يظل مصير ملايين الأمريكيين الفقراء معلقاً على قرارات سياسية واقتصادية تتجاوز حياتهم اليومية إلى مستقبل أجيال بأكملها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية