أمريكا: الديمقراطيون لا يستطيعون استعادة الطبقة العاملة
أمريكا: الديمقراطيون لا يستطيعون استعادة الطبقة العاملة
ينفق الديمقراطيون عشرات الملايين من الدولارات لفهم الطبقة العاملة التي كانت في يوم من الأيام علامة التعريف لحزبهم. وهم يواجهون أزمة هوية، في الوقت الذي يحاولون فيه جذب الناخبين من الطبقة العاملة الذين لم يعودوا يعتقدون أنَّ اليسار السياسي يراهم أو يكترث لشأنهم.
يطرح هذا البحث عن الذات سؤالاً ملحاً في أعماقهم: لماذا غيرت الطبقة العاملة موقفها؟
لإيجاد طريق للمضي قدماً، قد يرغب الديمقراطيون في العودة بالذاكرة إلى الوقت الذي فقدوا فيه الطبقة العاملة لأول مرة وانقسم تحالف «الصفقة الجديدة». في حين أن بعض التحديات التي يواجهها الديمقراطيون قد تغيرت، إلا أن الكثير من الصراعات لا يزال مألوفاً للغاية.
في مايو 1970. بعد أن وسّع الرئيس ريتشارد نيكسون من نطاق حرب فيتنام لتشمل كمبوديا، وقتل الحرس الوطني الأمريكي أربعة طلاب من جامعة «كنت ستيت»، صارت الحركة المناهضة للحرب أكثر راديكالية من أي وقت مضى. في مدينة نيويورك، امتدت الاضطرابات الجامعية من جامعة نيويورك إلى جامعة كولومبيا إلى شوارع المدينة، لا سيما حول «وول ستريت». وبالصدفة، كان الآلاف من العمال أيضاً في وسط المدينة يبنون ناطحات السحاب التي أعادت للمدينة نهضتها.
من فوق منصاتهم الفولاذية، شاهد العمال المتظاهرين يهتفون لدعم الطرف الآخر الذي يقاتل أقاربهم وأبناء جلدتهم في فيتنام. وفي 8 مايو، نزل العمال من مركز التجارة العالمي وأبراج أخرى نصف مشيدة. في اشتباك اجتاح مانهاتن السفلى، وأصبح يُعرف لاحقاً باسم «أعمال شغب الخوذات»، وانقضت فيها جموع من العمال على الطلاب المتظاهرين.
وخلصت مجلة «نيويوركر» إلى أن «هذا بالتأكيد هو الأسبوع الأكثر حرجاً الذي مرت به هذه الأمة منذ أكثر من قرن»، حتى بعد سنوات من الاضطرابات التي تراوحت بين اضطرابات الحقوق المدنية إلى العنف السياسي.
هاجمت رموز تحالف فرانكلين روزفلت مستقبل اليسار. وتسبب ذلك في صدمة عارمة لأصحاب النفوذ؛ إذ كان اليسار الجديد في حرب مع اليسار القديم.
كثّف الصراع الطبقي على الحرب الحقيقية من الصراعات الاجتماعية الكبرى. لم تكن فيتنام مهمة لكيفية عيش المرء، وإنما امتدت إلى كيف يموت: عرفت العائلات العاملة أي نوع من الناس حصلوا على تأجيلات دراسية، أو هربوا إلى كندا، أو أنقذتهم لجان التجنيد، أو استعانوا بمحامين لحمايتهم. وقد أزعج العديد من العائلات العاملة رؤية الطلاب المتظاهرين، من ملاذاتهم في الحرم الجامعي، يلقون محاضرات على الأمريكيين الأقل مكانة عن العدالة الاجتماعية، بينما يذهب أبناؤهم إلى الحرب بدلاً من الطلاب.
ولأسابيع، تظاهر الحرفيون وعمال المواني وسائقو الشاحنات بصفة يومية. وكان هناك نوعان من الديمقراطيين في الشوارع يتصادمان حول القيم الاجتماعية ومن يشعر بأنه محل تقدير. بلغ نشاط العمال ذروته مع تدفق ما يصل إلى 150 ألف عامل إلى وسط المدينة، في بحر من الأعلام الأمريكية. وأطلقت مجلة «تايم» على هذا الحدث اسم مهرجان «وودستوك العمال».
لم يكن هناك نقطة تحول واحدة في قصة فوز الحزب المحافظ الأمريكي بالطبقة العاملة، لكن هذه الفترة جسدت صراعاً لم يدرك سوى القليلين أنه كان مشتعلاً، وهو صراع طبقي كان يغلي تحت الحروب الثقافية الناشئة.
بالنسبة لكثير من الأمريكيين، كانت الثقافة المضادة تقلل من شأن ما اكتسبوه في الماضي من مكانة اجتماعية مرموقة - ليس فقط احترام الجنود والعلم، ولكن أيضاً احترام الأمومة وكبار السن والطبقة العاملة. بعد أن كانوا محل احتفاء، صار العمال الآن يُنظر إليهم على أنهم رجعيون وعنصريون وأغبياء جاهلون. لقد أبطلت الثقافة المضادة حتى شعورهم بالاغتراب في بلادهم.
وكما أقر تود غيتلين، أحد قادة الاحتجاجات الطلابية في ستينات القرن الماضي، في وقت لاحق، كان زملاؤه النشطاء في الغالب «أبناء الطبقة ذات الامتيازات» الذين لم يأخذوا في الحسبان «الحرب الطبقية»؛ إذ لم تكن تلك الحرب تعني فيتنام فحسب، ولكنها كانت تعني أيضاً قضايا تراوح من فقدان الوظائف الصناعية إلى المدارس الفقيرة إلى الاضطرابات الحضرية. حتى مع ارتفاع معدل الجريمة بأكثر من 100 في المائة في ستينات القرن الماضي، بدا أن اليسار يطلب من المواطنين الأمريكيين تقبل الجريمة تحت مسمى «التسامح».
ومع ارتفاع برجي التجارة التوأمين، ازدادت المدينة غرقاً أكثر فأكثر؛ شرع التراجع الصناعي في تدمير الحياة الحضرية حتى مع الاحتفاء بالعولمة. وكتب كين أوليتا عما تلا ذلك يقول: «مدينة نيويورك هي فيتنام الليبرالية».
كان العمال ذوو الخوذات الصلبة عادة من الطبقة العاملة الكاثوليكية الآيرلندية والأوروبية الشرقية الذين يعيشون في الأحياء خارج مانهاتن، وكثير منهم آباء أو أجداد مهاجرون من الفلاحين أو الفقراء. وكان أغلبهم أيضاً من الديمقراطيين. وغالباً ما كانت منازل طفولتهم تزينها صورتان بارزتان: يسوع وروزفلت.
رأى بعض الجمهوريين فرصة للفوز بتلك القاعدة الديمقراطية. في اليوم التالي لمهرجان «وودستوك العمال»، نصح بات بوكانان الرئيس نيكسون قائلاً: «بصراحة، هؤلاء هم شعبنا الآن».
بحلول حملة 1972 الانتخابية، سعى العمال إلى إنقاذ العمال الديمقراطيين إضافة إلى الحفاظ على نفوذهم. وأعلن المدير السياسي للاتحاد الأمريكي للعمل ومؤتمر المنظمات الصناعية (A.F.L. - C.I.O.): «لن نسمح لهؤلاء الخريجين من جامعتي هارفارد وبيركلي بالاستيلاء على حزبنا». لكنهم فعلوا ذلك.
في المؤتمر الديمقراطي، أصبح جورج ماكغفرن حامل لواء الحزب. فاز اليسار الجديد بالسيطرة على الحزب.
كان هذا هو المؤتمر الأول لثمانية من أصل عشرة مندوبين ديمقراطيين. كانوا متنوعين من حيث العرق والجنس - ولكن ليس من حيث الطبقة الاجتماعية. كانوا يمتلكون ضعف ثروة المواطن الأمريكي العادي وعشرة أضعاف شهاداته الجامعية. وبذلك، حوّلت المؤسسة الحزبية الناشئة تركيز الديمقراطيين من الطبقة الاجتماعية إلى الهوية الاجتماعية.
خصوم ماكغفرن وصفوه بأنه مرشح «الحمض والعفو والإجهاض»، ومن بين جماهيره الشابة والمتحمسة، كان التصفيق الأكبر الذي حظي به ماكغفرن هو دعوته للعفو عن «المتهربين من التجنيد»، على الرغم من أن أغلب الديمقراطيين قد عارضوا هذه السياسة.
استغل نيكسون ومستشاروه هذه القضايا الاجتماعية باعتماد استراتيجية شعبوية ثقافية اتبعها الجمهوريون من رونالد ريغان وحتى دونالد ترمب لتصوير الحملات الانتخابية على أنها قريبة من الشعب وليست بعيدة عنه.
وفاز نيكسون في 49 ولاية. بين ترشحه الأول في عام 1960 وترشحه الأخير، كانت جميع مكاسبه الانتخابية تقريباً من الناخبين من الطبقة العاملة. وفاز المرشح الجمهوري للرئاسة بأصوات العمال لأول مرة منذ بدء تتبع الأصوات.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط