سفن بلا رقيب.. كيف تحوّلت صناعة صيد الحبار في جنوب غرب الأطلسي إلى أزمة بيئية وإنسانية؟

سفن بلا رقيب.. كيف تحوّلت صناعة صيد الحبار في جنوب غرب الأطلسي إلى أزمة بيئية وإنسانية؟
إحدى سفن صيد الحبار

 

كشف تحقيق دولي حديث أجرته مؤسسة العدالة البيئية أزمة مزدوجة تتعلق بالبيئة وحقوق الإنسان في صناعة صيد الحبار بجنوب غرب الأطلسي، فبينما تستنزف أساطيل الصيد الصناعية، خصوصاً الصينية، مخزون الحبار الأرجنتيني قصير الزعانف بمعدلات تنذر بالانهيار، يواجه آلاف البحّارة العاملين على متن هذه السفن ظروفاً أشبه بالعبودية، من عنف جسدي وحرمان من الأجور إلى فقدان حياة بشرية في عرض البحر.

مورد اقتصادي وحلقة بيئية أساسية

يُعد هذا النوع من الحبار ركيزة رئيسية للنظام البيئي في جنوب غرب الأطلسي، حيث يشكل غذاءً أساسياً للحيتان والدلافين والفقمات وطيور البحر، كما تعتمد عليه أنواع تجارية أخرى مثل التونة والهيبريد وفق ما ذكرته مؤسسة العدالة البيئية الأربعاء، وعلى المستوى الاقتصادي، يوفر هذا النوع للأرجنتين إيرادات بمئات الملايين من الدولارات سنوياً، وتشير التقديرات إلى أن صيده شكّل أكثر من 12% من إجمالي صيد الحبار عالمياً عام 2023. ومع ذلك، باتت الضغوط على المخزون في المياه الدولية أكبر بأربعة أضعاف مقارنة بالمياه الإقليمية الأرجنتينية، ما يضع النظام البيئي برمته على حافة الانهيار.

تتركز الأنشطة المكثفة لصيد الحبار في المنطقة المعروفة بـ"ميل 201"، وهي المياه الدولية المحاذية للحدود البحرية للأرجنتين. هناك، تعمل مئات السفن التي تُظهر صور الأقمار الصناعية أضواءها بوضوح من الفضاء، ووفق مؤسسة العدالة البيئية، ارتفعت ساعات الصيد في هذه المنطقة بنسبة 85% ما بين 2019 و2024، لكن كميات الصيد تراجعت بشكل مقلق، ما يعكس تهديداً خطيراً بالاستنزاف.

انتهاكات حقوق الإنسان

وراء مشهد السفن المضيئة تختبئ قصص انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان. مقابلات مع طواقم من إندونيسيا والفلبين كشفت عن إرغام على ساعات عمل طويلة، عنف ممنهج، وحرمان من الأجور. كما أن ثلثي السفن الصينية المرتبطة بهذه الصناعة وُثقت ضدها حوادث وفاة أو اعتداءات جسدية، إضافة إلى ذلك، تم رصد ممارسات صيد غير قانونية تستهدف الثدييات البحرية وقطع زعانف بعض الأنواع في انتهاك للقوانين الدولية.

تداعيات بيئية وإنسانية 

انهيار مخزون الحبار لا يهدد فقط التوازن البيئي للمحيط الجنوبي، بل ينعكس مباشرة على الأمن الغذائي لملايين السكان في المنطقة الذين يعتمدون على الصيد مصدراً رئيسياً للغذاء والرزق، وفي الوقت نفسه، تُعد ظروف العمل القسري على هذه السفن مثالاً حيّاً على تقاطع الأزمات البيئية مع انتهاكات حقوق الإنسان، ما يجعل الأزمة ذات طبيعة شاملة تتطلب معالجة متكاملة.

الموقف الدولي والمنظمات الحقوقية

التحقيق أثار موجة من ردود الأفعال. فقد رحبت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"الصندوق العالمي للطبيعة" بالتفاصيل الجديدة وطالبت بتشريعات دولية أقوى لضبط أعالي البحار، والأمم المتحدة بدورها حذرت من مخاطر الإفراط في استغلال الموارد البحرية واعتبرت الأزمة اختباراً لالتزام المجتمع الدولي باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تنص على حماية الموارد المشتركة للأجيال القادمة، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهتهما يواجهان ضغوطاً متزايدة لفرض قيود على استيراد المنتجات المرتبطة بانتهاكات العمل القسري أو الصيد غير المشروع.

القانون الدولي والثغرات القائمة

رغم وجود اتفاقية قانون البحار (UNCLOS) والاتفاقية الدولية للعمل في قطاع الصيد (ILO C188)، فإن غياب آليات إنفاذ فعّالة في المياه الدولية يجعل من السهل على الشركات الإفلات من المحاسبة، وأكدت تقارير المنظمات الحقوقية أن ضعف الرقابة في الموانئ يسمح بتسلل منتجات صيد الحبار إلى الأسواق العالمية دون تدقيق في مصدرها أو ظروف إنتاجها.

الإحصاءات الحديثة: مؤشرات إنذار مبكر

بحسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، تراجع المخزون الإقليمي من الحبار الأرجنتيني بنسبة تفوق 20% في العقد الأخير، وفي المقابل، تُظهر سجلات المراقبة البحرية أن أكثر من 400 سفينة تعمل بشكل منتظم في "ميل 201" خلال الموسم، معظمها من الصين، إلى جانب سفن من كوريا الجنوبية وتايوان. هذه الأرقام تترجم إلى ضغط بيولوجي لا يمكن للنظام البيئي تحمله على المدى المتوسط.

من مورد وفير إلى مصدر نزاع

منذ السبعينيات، كان الحبار الأرجنتيني محوراً لصراعات متكررة حول حقوق الصيد بين الأرجنتين وأساطيل أجنبية، ومع تزايد الطلب العالمي، تحولت المنطقة إلى أحد أكثر مسارح الصيد ازدحاماً في العالم، ومع ذلك، لم تُترجم الجهود الإقليمية إلى آلية ملزمة لإدارة المخزون، لتبقى "ميل 201" منطقة مفتوحة تستقطب شركات تبحث عن الربح السريع ولو على حساب حقوق الإنسان والبيئة.

التوصيات والحلول المقترحة

دعت مؤسسة العدالة البيئية إلى تبني ميثاق عالمي لشفافية مصايد الأسماك، يشمل مراقبة إلزامية لكل السفن، تتبع المنتجات من البحر إلى السوق، وحظر دخول المنتجات المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان أو الصيد غير المشروع، كما أوصت بتعاون إقليمي بين دول أمريكا الجنوبية المعنية لتحديد حصص صيد علمية وضمان حماية المخزون.

الأزمة في صناعة صيد الحبار بجنوب غرب الأطلسي ليست مجرد قضية بيئية أو حقوقية معزولة، بل هي نموذج لكيفية تشابك الاستغلال الجائر للموارد الطبيعية مع انتهاك الكرامة الإنسانية. ومع غياب تحرك دولي منظم، يبقى الخطر قائماً بانهيار هذا النوع الحيوي وتفاقم ممارسات العمل القسري.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية