"ترامب والباراسيتامول".. حين تتحول المعلومات المضللة إلى انتهاك لحق المرضى
"ترامب والباراسيتامول".. حين تتحول المعلومات المضللة إلى انتهاك لحق المرضى
اعتبر خبراء الصحة في المملكة المتحدة، تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي ربط فيها بين استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل والتوحد ليست مجرد خطأ علمي، بل تهديد مباشر لحقوق المرضى في الحصول على رعاية قائمة على الأدلة.
ففي الوقت الذي شدّد فيه وزير الصحة البريطاني، ويس ستريتينج، على أن "لا يوجد أي دليل على الإطلاق" يدعم مثل هذا الربط، يرى حقوقيون أن خطورة الأمر تكمن في زعزعة الثقة بالطب، وإشاعة الخوف بين النساء الحوامل والمصابين بالتوحد على حد سواء.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "الغارديان"، اليوم السبت، فوجئ ستريتينج بالخبر أثناء عودته من فعالية رسمية بلندن، وسرعان ما أدرك أن ردًا سريعًا وعلنيًا ضروري لطمأنة الرأي العام، لم يكن الرد مجرد مسألة سياسية، بل مسؤولية أخلاقية تجاه صحة الناس.
وبدأ ستريتينج على الفور حملة اتصالية واسعة بمشاركة هيئة الخدمات الصحية الوطنية، والهيئات الطبية المختلفة، للتأكيد أن الباراسيتامول يظل خيارًا آمنًا للحوامل، وأن تصريحات ترامب لا أساس علمي لها.
بين العلم والخرافة
في مداخلاته الإعلامية، كما "نقلت فايننشيال تايمز"، حرص وزير الصحة البريطاني على الاستشهاد بأدلة علمية قوية، وأشار تحديدًا إلى دراسة سويدية كبرى شملت 2.4 مليون طفل، لم تجد أي صلة بين الباراسيتامول أثناء الحمل وبين التوحد أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، وأكد ستريتينج أن "طرح الأسئلة أمر مشروع، لكن ما يجب اتباعه هو العلم الطبي".
ومن جانبها، أكدت هيئة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية في المملكة المتحدة (MHRA) أن سلامة المرضى على رأس الأولويات، وأن الباراسيتامول لا يزال العلاج الموصى به لتسكين الألم لدى النساء الحوامل، والموقف نفسه تكرر من الوكالة الأوروبية للأدوية، التي شددت على غياب أي دليل يربط بين الدواء والتوحد، هذه الردود لم تكن مجرد بيانات تقنية، بل دفاعًا عن حق النساء في تلقي علاج آمن دون وصم أو تخويف.
لكن تصريحات ترامب لم تمر دون أثر، فقد نقلت "الغارديان" عن استطلاع شمل 500 صيدلية في المملكة المتحدة، أظهر أن نحو 24% من الصيادلة واجهوا مرضى عبّروا عن شكوكهم بشأن سلامة الباراسيتامول بعد انتشار تصريحات ترامب، وهنا يظهر البعد الحقوقي بوضوح.. المعلومات المضللة لا تُهدد فقط النظام الصحي، بل تُعرّض المرضى لقرارات قد تُلحق الضرر بهم وبأطفالهم.
صوت المصابين بالتوحد
من جانب آخر، كان رد الفعل من منظمات حقوقية أكثر وضوحًا وحزمًا، الجمعية الوطنية للتوحد في المملكة المتحدة أصدرت بيانًا شديد اللهجة، نشره موقعها الرسمي، وصفت فيه تصريحات ترامب وروبرت إف. كينيدي الابن بأنها "علوم زائفة خطرة" تُعرّض النساء الحوامل والأطفال للخطر وتُقلل من شأن المصابين بالتوحد.
وأكدت رئيسة قسم السياسات في الجمعية، ميل ميريت، أن "مسكنات الألم لا تُسبب التوحد، واللقاحات لا تُسببه"، مشددة على أن مثل هذه الادعاءات تزرع الخوف والوصمة بدلًا من تمكين المصابين بالتوحد.
وربطت الجمعية بين الحقائق العلمية وحقوق الأشخاص ذوي التوحد، معتبرة أن هؤلاء "يستحقون الحقائق، لا الخوف"، فهي ترى أن استمرار نشر هذه المعلومات المضللة يُقوض عقودًا من الأبحاث العلمية، ويترك المصابين بالتوحد وأسرهم في حالة فزع.
الأبعاد الاقتصادية والسياسية
بحسب "فايننشيال تايمز"، لم تقف تداعيات تصريحات ترامب عند حدود المخاوف الصحية، فقد انخفضت أسهم شركة كينفو، المالكة لعلامة تايلينول، بأكثر من 7% في يوم واحد، وهو ما يعكس كيف يمكن لتصريحات سياسية غير مسؤولة أن تؤثر مباشرة في الأسواق وفي حياة ملايين المرضى، لكن الأثر الأخطر يبقى على ثقة الناس بالدواء والعلاج، وهو ما حذّر منه الخبراء الذين استطلعتهم "الغارديان".
قالت أستاذة صحة الطفل في كلية لندن الجامعية، هيلين بيدفورد، إن ما قاله ترامب "إعلان مروع ومدمر وخطير"، لأنه يوحي بأن التوحد أمر يجب تجنبه وكأن المصابين به عبء على المجتمع، بينما أكدت الدكتورة سوزانا كولا-بالمر من جامعة هدرسفيلد أن المشكلة تكمن في تأثير السلطة: "يميل الناس إلى تصديق ما يقوله صاحب السلطة لمجرد مكانته، وليس لصحته العلمية".
حقوق المرضى والتضليل
من منظور حقوقي، تتقاطع هذه القضية مع مبدأ الحق في الصحة والحق في الحصول على معلومات دقيقة، وكما أوضح كريس فان تولكين، خبير الصحة العالمية في جامعة كوليدج لندن لـ"الغارديان"، فإن التعامل مع المرضى يجب ألا يتجاهل مخاوفهم أو حتى نظريات المؤامرة التي قد يؤمنون بها، بل يقتضي حوارًا مفتوحًا يحترم قلقهم ويعيد توجيههم إلى الحقائق.
هذا الحوار، كما يرى الخبراء، يحتاج إلى نظام صحي قوي قادر على تقديم وقت كافٍ ومعلومات مطمئنة لكل مريض.
وشددت الجمعية الوطنية للتوحد في بيانها على ضرورة أن تدعم الحكومة البريطانية المصابين بالتوحد بشكل أكبر، وأن تدين بوضوح مثل هذه المعلومات المضللة، فبالنسبة لها، القضية لم تعد مجرد مواجهة علمية، بل معركة لوقف الخوف والوصمة وضمان أن يعيش المصابون بالتوحد في مجتمع أكثر شمولًا واحترامًا.