أربعة أرواح يومياً.. لماذا قفزت وفيات المشردين في بريطانيا 9% عام 2024؟
أربعة أرواح يومياً.. لماذا قفزت وفيات المشردين في بريطانيا 9% عام 2024؟
في الوقت الذي سجَّل فيه المجتمع البريطاني وعودًا متكررة بتحسين ظروف السكن والدعم الاجتماعي، كشف مشروع رصد خاص بـ “متحف التشرد” أن 1611 شخصًا على الأقل ماتوا أثناء تعرضهم للتشرد في 2024، بارتفاع نسبته 9 في المئة عن عام 2023، ومن بينهم 11 طفلاً، أربعة منهم رضع لم يبلغوا عامهم الأول حسبما ذكرت الأربعاء وكالة الأنباء البريطانية (بي إيه ميديا).
وتعيد هذه الأرقام التي يجمعها "مشروع وفيات المشردين" سنويًا عبر طلبات حرية المعلومات وتقارير الأطباء الشرعيين وبيانات أسر الضحايا، قضية الإقصاء المدني إلى واجهة النقاش الوطني وتطرح تساؤلات أساسية حول قدرة الدولة والمجتمع على حماية من هم في أخطر حالات الضعف وفق شبكة "Museum of Homelessness".
يُعد مشروع “متحف التشرد” من المصادر المستقلة النشطة في توثيق هذه الوفيات منذ 2019، وهو يعتمد على تحقيق ميداني يجمع أسماءً وحالات موثقة بدل الاعتماد على إحصاءات إدارية قد تكون مجحفة أو متأخرة، ومع ذلك يؤكد المشروع نفسه أن أرقامه قد تكون تحت التقدير بسبب صعوبات الإبلاغ والتعريف القانوني للحالة السكنية للمتوفى، في حين تشير تحليلات سابقة إلى أن مكتب الإحصاءات الوطنية قد أنهى أو أعاد تشكيل نشرات كان يعتمدها الباحثون، ما فَتَحَ فجوة في صورة حجم المشكلة الرسمية.
عوامل الوفاة وأنماطها
تُظهر نتائج المشروع أن غالبية الوفيات -نحو 55 في المئة- تندرج في فئة ما يُسمى "وفيات اليأس" وتشمل الانتحار وحالات التسمم العقاري والوفيات المرتبطة بتعاطي المخدرات والكحول، كما أن نسبة كبيرة من الوفيات حدثت عندما كان الضحايا يقيمون في سكن مؤقت مثل فنادق أو مراكز إيواء، حيث كان 49 في المئة من الحالات المعروفة أثناء توثيقها تتعلق بتواجد المتوفى في سكن مؤقت، و18 في المئة في مرافق دعم إيوائي، ولفتت التحقيقات إلى انتشار مشاكل مرتبطة بالمخدرات الجديدة والنُظُم الدوائية المركّبة وقيود الخدمات الصحية وغياب المتابعة المستمرة، هذه الخلاصة تربط بين عوامل الصحة العامة والبيئة السكنية المؤقتة وعجز نظم الحماية.
وجود 11 طفلاً ضمن ضحايا 2024 يثير إنذاراً خاصاً، حيث ربطت أبحاث ولجان وطنية بين السكن المؤقت وظروف معيشية تضعف فرص البقاء والنمو الآمن للأطفال، وأفادت تقارير مستقلة بوقوع عشرات حالات وفاة مرتبطة بشكل أو بآخر بظروف الإقامة المؤقتة خلال فترات سابقة، في حين تحذر منظمات مدنية من أن عدد الوفيات المرتبطة بالسكن المؤقت قد يكون أعلى مما يكشفه العَدد الرسمي؛ لأن تسجيل وتحليل بيانات وفيات الأطفال في سياقات السكن الطارئ لا يخضع دائمًا لمنهجية موحدة.
توزيع وفيات المشردين لم يكن موحدًا بين أنحاء المملكة المتحدة؛ فبينما سُجلت زيادات في أجزاء من إنجلترا وشمالها وشرقها، شهدت مدن في اسكتلندا، مثل غلاسغو وإدنبرة، تراجعًا في الوفيات مقارنة بالعام السابق، ما يشير إلى أن سياسات محلية منسقة وخدمات تدخّل مبكرة قد تُحدث فارقًا ملموسًا.
ردود فعل حقوقية
وصفت مؤسسات إغاثة وإسكان، مثل منظمة كريسيس، هذه النتائج بأنها " أزمة إنسانية يجب أن تقود لسياسات عاجلة"، وطالبت كريسيس الحكومة البريطانية بوضع استراتيجية وطنية طموحة لوقف الخسائر، بالتركيز على زيادة الإسكان الاجتماعي، ورفع سقف دعم السكن وإجراءات فورية لحماية الأطفال والعائلات المتضررين، وبدورها نددت جماعات أخرى ومنظمات حملت الدولة مسؤولية اتخاذ خطوات سريعة لتطبيق تشريعات مراقبة دور الإيواء وإغلاق الثغرات في نظام الإحالة والدعم.
وعلى الجانب الرسمي قال أحد مسؤولي الحكومة إن أرقام الوفيات لا تقبل وإن على السلطات المحلية والحكومة المركزية العمل فورًا لتقليل الضرر.
من منظور حقوقي، ترتبط قضية وفيات المشردين بموجبة التزامات دولية فيما يتعلق بحق الحياة وحق السكن اللائق وحقوق الطفل، وتوضح جِهَات دولية أن الحق في السكن جزء من مجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يتوجب على الدولة حمايتها وتعزيزها، وأن للطفل حق الحياة والبقاء والنمو الذي يجب أن تحققه السياسات العامة، كما تشكل التزامات حماية الحيازة والوقاية، من الإخلاء القهري وصيانة الخدمات الصحية والعلاج من الإدمان، أجزاءً من التزامات الدول وفق معايير الأمم المتحدة واللجان المتخصصة، وهذه الصيغ القانونية تقدم قاعدة للمساءلة ولصياغة سياسات ملزمة ومحددة زمنياً.
التكاليف الإنسانية والاجتماعية
الخسارة اليومية لحياة أربعة أشخاص بلا مأوى ليست رقمًا إحصائياً فحسب؛ بل هي فقدان خبرات وحرمان مستمر من فرص العمل والرعاية الأسرية وإمكانات التعافي، وتداعيات هذا الواقع تتجاوز الحزن العائلي لتشمل ضغوطًا على المنظومة الصحية، وتكاليف الطوارئ، وزيادة الاعتماد على المساعدات الخيرية، وإضعاف النسيج الاجتماعي، كما أن استمرار هذه المعدلات يبشر بخسارة راسخة في رأس المال الاجتماعي والاقتصادي للأجيال القادمة، ما يجعل الوقاية والاستثمار المباشر في السكن والدعم النفسي والعلاجي تدخلاً اقتصاديًا واجتماعيًا ذكيًا وليس ترفًا أخلاقياً فحسب.
تستخلص توصيات الجهات المتخصصة ضرورة موازنة الحلول العاجلة وطويلة المدى، وتنفيذاً فورياً لقواعد الرقابة على أماكن الإقامة المؤقتة، وإخراج تشريعات الرقابة الخاصة بدور الإيواء إلى حيز التطبيق، وتوسيع الإسكان الاجتماعي وبناء وحدات ثابتة، ورفع كفاءة خدمات الصحة النفسية وخدمات تعاطي المخدرات، برامج متخصصة لحماية الأطفال في أماكن الإقامة الطارئة، وتحسين نظام الإحصاء والعدّ عبر تنسيق واضح بين مكتب الإحصاء الوطني والمشروعات المستقلة لضمان رؤية موحدة قابلة للقياس والمتابعة.
أرقام 2024 ليست مجرد انعكاس لإخفاق إداري؛ بل إن اعتبار وفاة أي إنسان نتيجةً لغياب مأوى آمن هو فشل في شبكة الحماية الاجتماعية والذي يفرض واجبًا سريعًا وواضحًا على صانعي القرار، وتتطلب حماية الحق في الحياة والعيش بكرامة اليوم تنفيذًا فورياً لسياسات معلنة وموارد مخصصة وإشرافًا فعالًا، كي لا يتحول إحصاء الضحايا إلى إرث دائم تُحمله الأجيال الحاضرة والمستقبلية.