كيمي إيبيكونلي.. ضابطة أممية تفوز بجائزة مرموقة تكريماً لكفاحها من أجل حقوق السجناء في الكونغو
كيمي إيبيكونلي.. ضابطة أممية تفوز بجائزة مرموقة تكريماً لكفاحها من أجل حقوق السجناء في الكونغو
لم تكن المهمة عادية عندما كانت الأمم المتحدة تبحث عن خبير متمرس في بناء السجون -ويفضل أن تكون امرأة- للعمل ضمن بعثتها في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبالنسبة إلى النيجيرية أولوكيمي إيبيكونلي بدا العرض مثالياً، لكنه يعني مغادرة عائلتها الصغيرة في لاغوس وخوض مغامرة مجهولة في بلد ما زال يتعافى من الحروب.
كيمي، كما تحب أن تُعرف، تحدثت إلى زوجها بصدق عن قلقها من ترك طفليهما البالغين سبع وعشر سنوات فقط، رد زوجها بابتسامة وهدوء: "هذان الطفلان يحملان اسمي، وأنا من سيتولى رعايتهما"، وهكذا بدأت رحلتها الطويلة بين السجون والجبال، رحلة انتهت هذا الأسبوع في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، حيث فازت بجائزة الأمم المتحدة للنساء العاملات في مجالات العدالة والإصلاح وفق موقع أخبار الأمم المتحدة.
الجائزة تكرم نساءً يواجهن التحديات الميدانية ويكسرن الصور النمطية، وتحتفي بكفاحهن من أجل الكرامة والعدالة داخل أكثر الأماكن قسوة في العالم.
بين الكرامة والأمن
بدأت مسيرة كيمي المهنية في مصلحة السجون النيجيرية عام 2020، حيث أشرفت على تصميم وإصلاح مراكز احتجاز تضم تسعة آلاف نزيل، لم يكن الأمر تقنياً فقط، بل إنسانياً في المقام الأول.
تقول كيمي: "نحاول تحقيق التوازن بين الأمن واحترام كرامة الإنسان، حتى في الزنازين، يجب أن تكون دورات المياه آمنة وتحفظ الخصوصية، نستخدم تصميماً يسمح بمراقبة النزلاء لمنع الانتحار، من دون المساس بكرامتهم".
هذا النهج الإنساني هو ما لفت أنظار الأمم المتحدة، فاختارتها بعثة مونوسكو في جمهورية الكونغو الديمقراطية لتشارك في إصلاح نظام السجون المتدهور في بلد مزقته النزاعات المسلحة.
بناء السجون.. وبناء الثقة
في كينشاسا، بدأت كيمي مهمة تبدو إدارية، لكنها في الواقع كانت إعادة صياغة لواقع السجون الكونغولية، عملت مع السلطات المحلية لتطبيق المعايير الدولية المعروفة باسم "قواعد مانديلا" و"قواعد بانكوك" التي تدعو إلى معاملة إنسانية للسجناء ومراعاة احتياجات النساء.
واجهت مقاومة شديدة من بعض المسؤولين الذين لم يروا جدوى من إضافة مكتبات أو ورش عمل أو مرافق رياضية إلى السجون، فغيرت كيمي طريقة الإقناع، وقالت لهم: "الرياضة تجعل السجناء أكثر صحة وهدوءاً، والمكتبة تشغل أذهانهم بالقراءة بدلاً من التفكير في الهروب".
عملت بلا كلل على رسم خرائط للمرافق القائمة وتحديد ما يحتاج إلى ترميم أو استبعاد، وأصرت على بناء سجون منفصلة للنساء لحمايتهن من الاستغلال والعنف. وعندما لم يكن ذلك ممكناً، دفعت لبناء ممرات وأسوار مستقلة تضمن الحد الأدنى من الخصوصية والأمان.
تحديات في الميدان
في مواقع العمل كانت كيمي تواجه نظرات استغراب واستهزاء، سمعَت من بعض العمال تعليقات مثل: "من هذه الفتاة القصيرة التي تراجع الفواتير وتفحص الأسمنت؟"، لم تثنها الكلمات عن أداء واجبها، وتعلمت بسرعة اللغة الفرنسية التقنية لتراجع تفاصيل العقود وتواجه محاولات الغش في العطاءات.
وفي أحد المشاريع، اكتشفت أن المقاول وضع مراوح بدلاً من أجهزة التكييف المنصوص عليها في العقد، فأوقفت العمل وقالت بصرامة: "ثلاثة مكيفات هواء، وليس أقل"، وعندما اشتكى المقاولون إلى رؤسائهم في العاصمة، كان الرد واحداً: "تحدثوا إلى كيمي".
حين اقترب الخطر
في عام 2023، نُقلت كيمي إلى مقاطعة جنوب كيفو لتشرف على مشروع بناء منشأة أمنية جديدة بتكلفة 850 ألف دولار، كانت تذهب يومياً من بوكافو إلى كاباري، تقطع عشرات الكيلومترات وسط مناطق غير مستقرة أمنياً.
لكن في يناير، شن متمردو حركة 23 مارس هجوماً واسعاً، واضطرت الأمم المتحدة إلى إجلاء موظفيها، كانت كيمي آخر من تبقى في الميدان، تقول: "اضطررنا لعبور الحدود دون دعم لوجستي، كل شخص وجد طريقه بنفسه".
حملت حقيبة واحدة فقط، واستقلت سيارة مع زميلين قبل سقوط المدينة بساعات، وعندما وصلت إلى الحدود الرواندية، أوقفها الجنود لأنهم ظنوا أنها ضابطة شرطة، بعد استجواب طويل ومكالمات متعددة، سُمح لها بالعبور أخيراً.
امرأة تبني الأمل من الرماد
رغم المخاطر، لم تتوقف كيمي عن الإبداع. في عام 2021، أطلقت مشروع الغاز الحيوي في سجن أوفيرا، حيث تحولت الفضلات البشرية إلى وقود للطهي، ما أنهى استخدام الحطب وأنقذ الغابات المحيطة، تقول بفخر: "لم يعد هناك دخان أو روائح. صار السجن أنظف وأكثر إنسانية".
وفي سجن بوكافو، لاحظت أن النساء لا يحصلن على حصص الطعام المخصصة لهن، فواجهت البيروقراطية بنفسها، جمعت مبلغاً صغيراً من الميزانية، رممت المطبخ، وفرضت توزيع الوجبات بالتساوي. كانت تأتي كل صباح لتتأكد بنفسها أن السجينات يتناولن طعامهن كبقية السجناء.
الأم التي لم تنس بيتها
على الرغم من مسؤولياتها الميدانية، لم تتخل كيمي يوماً عن دورها في كونها أماً، كانت تتحدث إلى طفليها يومياً عبر مكالمات الفيديو، تقول بابتسامة: "في طريقهما إلى المدرسة، يتصلان بي دائماً، حتى في الطائرة كنت أتحدث إليهما عبر الإنترنت".
حين غادرت إلى الكونغو لأول مرة، تظاهر ابنها الصغير بالتماسك: "أراك لاحقاً يا أمي"، في حين بكت شقيقته طلباً "لخمس دقائق إضافية"، وبعد فوضى الإجلاء من بوكافو، لم يتمالك ابنها نفسه وقال لها باكياً: "عودي إلى المنزل، لسنا بحاجة لهذا العمل"، فأجابته كيمي بهدوء الأم التي تعرف هدفها: "الأمر لا يتعلق بالمال فقط، بل بفعل شيء لنفسي ولكم أيضاً".
تكريم يختصر الحكاية
اليوم، وهي تتسلم الجائزة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، تبتسم كيمي وهي تتذكر كل تلك اللحظات المليئة بالعرق والخوف والأمل، تقول: "هذه الجائزة ليست لي وحدي، بل لكل امرأة تعمل بصمت لتثبت أن الرحمة يمكن أن توجد حتى خلف القضبان".
تأسست جائزة الأمم المتحدة للنساء العاملات في مجالات العدالة والإصلاح لتكريم الموظفات اللواتي يقدمن إسهامات بارزة في بناء مؤسسات إنسانية داخل أنظمة السجون حول العالم، وتأتي الجائزة هذا العام في وقت تسعى فيه الأمم المتحدة إلى تعزيز مشاركة النساء في القطاعات الأمنية والإصلاحية التي ظلت لعقود حكراً على الرجال.
ويبلغ عدد النساء العاملات في أقسام العدالة والسجون في بعثات الأمم المتحدة أكثر من 1200 موظفة من مختلف الدول، تسهم هؤلاء النساء في تطبيق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتحسين ظروف الاحتجاز، وحماية الفئات الضعيفة داخل السجون، وتُعد تجربة كيمي إيبيكونلي نموذجاً لروح الإصرار التي تحاول الأمم المتحدة ترسيخها في العمل الميداني القائم على الكرامة والعدالة.