عدالة مؤجلة بالكونغو.. هل يعيد القرار الإفريقي الحقوق للناجيات من العنف في النزاعات؟
عدالة مؤجلة بالكونغو.. هل يعيد القرار الإفريقي الحقوق للناجيات من العنف في النزاعات؟
بعد أكثر من عقدٍ من الصمت والخذلان، دوّى في أروقة العدالة الإفريقية صوتٌ غير مسبوق حيث حمّلت اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب جمهورية الكونغو الديمقراطية المسؤولية القانونية الكاملة عن أعمال العنف الجنسي الواسعة التي ارتكبتها قواتها المسلحة في عام 2011 بإقليم فيزي جنوب كيفو، في قرار اعتبره المدافعون عن حقوق المرأة انتصارًا تاريخيًا للعدالة المؤجلة.
في صباح الأول من يناير 2011، حوّلت وحدات عسكرية تابعة للجيش الكونغولي قرى بأكملها إلى مسرح للفظائع، تعرضت أكثر من خمسين امرأة للاغتصاب الجماعي، والتعذيب، والإذلال أمام أسرهن، وقُتل بعض الضحايا أثناء الهجمات، في حين نُهبت المنازل ودُمّرت القرى، ورغم فداحة الجرائم، ظلّت العدالة غائبة، حيث أجّلت المحاكم العسكرية القضايا مرارًا، وغابت الجلسات، وتعذّر على الضحايا حضور المحاكمات المتنقلة، ما أدى فعليًا إلى إسكات أصوات الناجيات لعشر سنوات متواصلة وفق “ريليف ويب”.
البلاغ رقم 686/18 الذي تقدّمت به جمعية النساء المدافعات عن حقوق الإنسان ومنظمة "المساواة الآن" ومعهد حقوق الإنسان والتنمية في إفريقيا، شكّل الشرارة القانونية التي دفعت اللجنة الإفريقية إلى إصدار حكمها التاريخي، وجاء القرار شاملاً وحاسمًا، إذ أمر سلطات جمهورية الكونغو الديمقراطية بمقاضاة الجناة خلال ستة أشهر، وتحديد وتعويض جميع الناجيات، وتقديم رعاية طبية ونفسية مجانية وكافية لهن، فضلًا عن تقديم اعتذار علني باسم الدولة في المنطقة المتضررة.
أبعاد قانونية غير مسبوقة
يمثل الحكم سابقة قانونية بارزة في تاريخ العدالة الإفريقية، إذ أكدت اللجنة أن جمهورية الكونغو الديمقراطية انتهكت مواد جوهرية من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب وبروتوكول مابوتو الخاص بحقوق المرأة في إفريقيا، وشملت الانتهاكات الحقوق في الحياة، والكرامة، والصحة، والسلامة الجسدية، والحماية من التعذيب، إضافة إلى الحق في الاستقلال الجسدي والإنجابي.
الأهمية الكبرى للحكم تكمن في اعتراف اللجنة بالطبيعة الجندرية للعنف الجنسي، مؤكدة أن الهجمات لم تكن عرضية، بل "مُصمَّمة لإهانة النساء تحديدًا"، ما يُعزز التفسير الحقوقي للعنف الجنسي بوصفه سلاحاً من أسلحة الحرب، وليس مجرد نتيجة ثانوية للصراع.
العنف الجنسي في الكونغو
منذ اندلاع النزاعات في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية مطلع الألفية، تحوّل العنف الجنسي إلى أداة ممنهجة للسيطرة والإرهاب، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 200 ألف امرأة وفتاة تعرّضن للعنف الجنسي منذ عام 1998، وفي عام 2024 وحده، سجّل مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان أكثر من 27 ألف حالة اغتصاب موثقة في مناطق النزاع.
في عام 2025، ومع تجدد القتال بين الجيش النظامي وجماعة "إم 23" المتمردة في شرق البلاد، تصاعدت الهجمات على المدنيين، وكشف تقرير حديث لليونيسف أن الأطفال شكّلوا ما بين 35 و45 بالمئة من نحو 10 آلاف حالة عنف جنسي تم توثيقها في شهري يناير وفبراير فقط، ما يعني أن "طفلًا يُغتصب كل نصف ساعة" خلال ذروة القتال، وهذه الأرقام الصادمة تؤكد أن العنف القائم على النوع الاجتماعي لا يزال يُستخدم سلاحاً لإخضاع المجتمعات وتفكيكها.
وفقًا للقانون الدولي الإنساني، تُعد أعمال الاغتصاب والتعذيب والعنف الجنسي المرتكبة من قبل القوات النظامية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وقد شددت اللجنة الإفريقية على أن مسؤولية الدولة لا تقتصر على معاقبة الجناة فحسب، بل تشمل واجب منع وقوع مثل هذه الجرائم وضمان جبر الضرر للضحايا.
كما أن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) وبروتوكول مابوتو يفرضان التزامًا واضحًا على الحكومات بتوفير العدالة، والرعاية، والحماية للناجيات، وإخفاق جمهورية الكونغو الديمقراطية في هذه الجوانب طوال أكثر من عشر سنوات يُعد إخلالًا فاضحًا بهذه الالتزامات.
أصداء دولية وترحيب حقوقي
لقي القرار ترحيبًا واسعًا من المنظمات الحقوقية الدولية، حيث وصفته هيومن رايتس ووتش بأنه "خطوة تاريخية نحو إنهاء الإفلات من العقاب على العنف الجنسي في النزاعات الإفريقية"، في حين اعتبرت منظمة العفو الدولية أن "القرار يفتح الباب أمام مئات القضايا المشابهة في القارة، حيث ما زال العنف القائم على النوع الاجتماعي يُعامل على أنه جريمة ثانوية".
من جهتها، أشادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالحكم، مؤكدة أنه يُظهر قدرة الآليات الإقليمية على فرض المحاسبة عندما تتقاعس الأنظمة الوطنية عن القيام بواجبها، ودعت الحكومة الكونغولية إلى تنفيذ التوصيات دون إبطاء، وإشراك الناجيات في وضع خطط التعويض والرعاية.
تتجاوز أهمية الحكم نطاق التعويض المادي، فهو اعتراف رسمي بمعاناة النساء، ورسالة إلى المجتمع الكونغولي بأن العدالة ممكنة وأن الصمت ليس قدرًا، في منطقةٍ شهدت أجيالًا من الحروب والنزوح، يُعدّ الاعتراف والاعتذار خطوتين رمزيتين لكنهما جوهريتان في إعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها.
بين القرار والتنفيذ
رغم ما يحمله القرار من رمزية قوية، فإن التحدي الأكبر يكمن في التنفيذ. فالنظام القضائي الكونغولي يواجه ضعفًا هيكليًا، وتُظهر تقارير الأمم المتحدة أن العديد من قضايا العنف الجنسي السابقة لم تُستكمل بسبب نقص الموارد والتدخلات السياسية، كما أن تأمين الرعاية النفسية والطبية للضحايا يتطلب بنية صحية، في حين أنها لا تزال شبه منهارة في مناطق النزاع.
محللون حقوقيون يرون أن نجاح هذا القرار يعتمد على إرادة سياسية صادقة من جانب كينشاسا، ودعمٍ فعلي من الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي لتطبيق التوصيات، ومنه تدريب الجيش على احترام حقوق المرأة، وإدماج مقاربة النوع الاجتماعي في كل برامج العدالة الانتقالية.
بهذا الحكم، تؤسس اللجنة الإفريقية لمرحلة جديدة من المساءلة الإقليمية في قضايا العنف الجنسي، وتؤكد أن العدالة للنساء في إفريقيا ليست ترفًا بل استحقاق قانوني وإنساني، فالقرار لا يُعيد فقط الاعتبار لضحايا فيزي، بل يُرسل رسالة أوسع مفادها أن "العدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت".
التطور الزمني للعدالة بقضية فيزي (2011 - 2025)
1 يناير 2011 – مجزرة فيزي
في الساعات الأولى من العام الجديد، شنّت وحدات من الجيش الوطني الكونغولي هجومًا واسعًا على قرى في إقليم فيزي، جنوب كيفو، و خلال ساعات، تحوّلت المنازل إلى مسارح عنفٍ مروّع؛ أكثر من خمسين امرأة تعرضن للاغتصاب الجماعي والتعذيب، وقُتل عدد من الضحايا، في حين نُهبت الممتلكات ودُمّرت القرى.
2011 – 2013: صمت رسمي وعدالة مؤجلة
رغم التوثيق الميداني المحدود من منظمات محلية مثل “نساء من أجل فيزي”، فإن الحكومة لم تفتح أي تحقيقات شفافة، وحاولت بعض المحاكم العسكرية المحلية النظر في القضية، لكن الجلسات أُجّلت مرارًا بسبب “غياب القضاة أو الشهود”، ما أدى عمليًا إلى تجميد العدالة، وخلال هذه الفترة، عانت الناجيات من التهديد والإقصاء الاجتماعي، في حين ظلّ مرتكبو الجرائم في مواقعهم العسكرية.
2014 – 2017: محاولات أممية لتسليط الضوء
قدّمت بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو الديمقراطية (MONUSCO) تقارير متكررة توثّق أنماطًا متكررة من استخدام العنف الجنسي من قبل القوات المسلحة والمجموعات المتمردة، لكن غياب الإرادة السياسية حال دون أي محاكمات حقيقية، كما فشلت الحكومة في تنفيذ توصيات المقرّر الخاص للأمم المتحدة بشأن العنف الجنسي في النزاعات الذي دعا إلى إنشاء آلية وطنية للتعويض.
2018: اللجوء إلى اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب
بعد سبع سنوات من الصمت الرسمي، قدّمت جمعية النساء المدافعات عن حقوق الإنسان، ومنظمة “المساواة الآن”، ومعهد حقوق الإنسان والتنمية في إفريقيا (IHRDA)، بلاغًا رسميًا إلى اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب تحت رقم 686/18، البلاغ اتهم جمهورية الكونغو الديمقراطية بانتهاك التزاماتها بموجب الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان وبروتوكول مابوتو، لفشلها في حماية النساء ومحاسبة مرتكبي الجرائم.
2019 – 2022: مراجعة القضية واستماع اللجنة للأطراف
باشرت اللجنة الإفريقية دراسة البلاغ، وجمعت أدلة ووثائق من منظمات محلية ودولية، منها تقارير طبية وشهادات ناجيات، استمعت اللجنة إلى مرافعات قانونية تؤكد أن الدولة لم تتخذ أي خطوات فعالة لضمان العدالة أو توفير التعويض، في هذه الفترة، بدأت القضية تكتسب صدى في أوساط المدافعين عن حقوق المرأة في القارة.
2023: ضغوط متزايدة وحراك نسوي دولي
بدأت منظمات نسوية في كينشاسا ونيروبي وداكار حملات للمطالبة بتسريع البت في البلاغ، كما قدّمت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مذكرة دعم قانونية للجنة الإفريقية، أكدت فيها أن الحكومة الكونغولية فشلت في الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقية “سيداو”، وارتفعت أصوات المدافعات عن حقوق المرأة في شرق إفريقيا مطالبةً بإنهاء الإفلات من العقاب.
2024: تصاعد العنف الجنسي وتجدد رمزية القضية
شهدت البلاد موجة جديدة من الصراع بين الجيش وجماعة "إم 23"، أعادت مشاهد العنف الجنسي إلى الواجهة، وسجّلت الأمم المتحدة أكثر من 27 ألف حالة عنف جنسي خلال عام واحد، ما جعل قضية فيزي رمزًا متجددًا للانتهاكات المستمرة، وفي هذه الأجواء، اكتسبت الدعوى أمام اللجنة الإفريقية زخمًا سياسيًا وإنسانيًا متزايدًا.
مايو 2025: قرار اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب
أصدرت اللجنة حكمها التاريخي في البلاغ رقم 686/18، مؤكدة مسؤولية جمهورية الكونغو الديمقراطية عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها قواتها في فيزي عام 2011.
نص القرار:
_ملاحقة ومحاكمة المسؤولين خلال ستة أشهر، وتحديد وتعويض جميع الناجيات ماديًا ومعنويًا، وتقديم رعاية طبية ونفسية مجانية للضحايا، وإصدار اعتذار علني رسمي في المنطقة المتضررة، ودمج التدريب على حقوق المرأة في برامج الجيش والشرطة والقضاء.
يونيو – أغسطس 2025: ترحيب حقوقي
رحّبت منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” و”المساواة الآن” بالقرار، واعتبرته “نقطة تحول في مسار العدالة للنساء في إفريقيا”، كما دعت الأمم المتحدة حكومة الكونغو إلى تنفيذ التوصيات دون تأخير، واحتفت الصحافة المحلية في جنوب كيفو بالقرار بوصفه “إعادة اعتبار رمزية للضحايا المنسيات”.
سبتمبر 2025: بداية تنفيذ أولى التوصيات
أعلنت وزارة العدل الكونغولية تشكيل لجنة وطنية لمتابعة تنفيذ القرار، وتنسيق برامج الرعاية للضحايا بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، كما بدأت التحضيرات لإقامة نصب تذكاري في فيزي لتخليد ذكرى الضحايا وتوثيق الجرائم.
على امتداد أربعة عشر عامًا، تحوّلت قضية فيزي من مأساة محلية إلى سابقة قارية تُعيد رسم حدود العدالة في إفريقيا، ولم يغلق القرار الصادر في عام 2025 الجرح تمامًا، لكنه فتح بابًا للشفاء عبر الاعتراف والمحاسبة، مؤكدًا أن ذاكرة النساء لا تموت، وأن العدالة -مهما طال غيابها- قادرة على الوصول.