الانتحار في إب.. حوادث فردية تكشف تدهور الأوضاع الإنسانية باليمن
الانتحار في إب.. حوادث فردية تكشف تدهور الأوضاع الإنسانية باليمن
تشهد محافظة إب اليمنية الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي ارتفاعاً مقلقاً في معدلات الانتحار خلال الأسابيع الأخيرة، لتتحول الظاهرة من حوادث فردية إلى مؤشر صارخ على تدهور الأوضاع الإنسانية في واحدة من أكثر المحافظات كثافة سكانية.
في حادثة مأساوية جديدة، أقدم الشاب رياض عبدالواحد أحمد محمد الصهباني، في العقد الثاني من عمره، على إنهاء حياته شنقاً داخل منزله في منطقة شذبان بمديرية ريف إب، وبعد أيام فقط، حاول شاب آخر الانتحار عبر قطع شرايين يده وعنقه، قبل أن يتمكن ذووه من إنقاذه في اللحظة الأخيرة، وفق وسائل إعلام محلية.
وجع يتجاوز الأفراد إلى مأساة جماعية
تقول مصادر محلية إن تصاعد حالات الانتحار يرتبط بشكل وثيق بانهيار الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في المحافظة وفي اليمن بشكل عام، حيث يعيش آلاف الشباب بلا فرص عمل، بينما تتزايد الأسعار وتختفي الخدمات الأساسية، ومع انعدام الأفق يصبح اليأس هو الخيار الوحيد أمام كثيرين.
وتضيف المصادر أن غياب الدعم النفسي، وتفشي البطالة، وانهيار منظومة التعليم، وتراجع الخدمات الصحية، كلها عوامل تدفع الأفراد نحو الحافة.
إب، التي كانت تُعرف يوماً بـ"المدينة الخضراء"، أصبحت اليوم رمزاً للاكتئاب الجماعي والعجز عن مواجهة الحياة اليومية.
الانتحار في اليمن.. انعكاس لانهيار الدولة والمجتمع
ليست إب حالة معزولة، فبحسب تقارير منظمات إنسانية، ارتفعت معدلات الانتحار في اليمن منذ عام 2020 بنسبة تتراوح بين 30 و40%، وتُسجَّل غالبية الحالات بين الشباب في الفئة العمرية من 18 إلى 35 عاماً، وهي الفئة التي فقدت الأمل في الاستقرار أو تأمين مستقبل كريم.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 7 ملايين يمني يعانون اضطرابات نفسية ناجمة عن الحرب المستمرة منذ نحو عقد من الزمن، وفي بلد يفتقر إلى مراكز متخصصة بالصحة النفسية، يصبح الوصول إلى الدعم النفسي رفاهية لا يملكها سوى القلة.
كما أظهر تقرير صادر عن منظمة أطباء بلا حدود عام 2024 أن حالات الاكتئاب الحاد والانهيار النفسي تضاعفت بين النازحين داخلياً، خصوصاً النساء والشباب الذين يعيشون في ظروف قاسية، مع محدودية الوصول إلى الغذاء والدواء والدخل الثابت.
صمت رسمي وتجاهل متعمد
رغم خطورة المؤشرات، لم تصدر السلطات المحلية في المحافظة أو الحكومية في اليمن أي بيانات رسمية لمعالجة الظاهرة أو حتى الاعتراف بها كأزمة مجتمعية، وغالباً ما تُسجّل حوادث الانتحار كحالات فردية معزولة، دون أي تحقيق جاد في الأسباب أو العوامل المحيطة.
ويقول ناشطون إن المجتمع نفسه يسهم أحياناً في تفاقم المشكلة، إذ يُحاط الانتحار في الثقافة اليمنية بوصمة عار اجتماعية ودينية، تمنع الأسر من الإبلاغ أو الحديث عن الحالة خوفاً من الإدانة أو العزلة.
الفقر واليأس.. مزيج قاتل
تتجاوز الأزمة بعدها النفسي لتشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، فبحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، يعيش أكثر من 80% من اليمنيين تحت خط الفقر، ويعتمد ما يقرب من 21 مليون شخص على المساعدات الإنسانية للبقاء، وهذا الواقع القاتم جعل كثيرين يشعرون بأن لا مستقبل لهم في ظل حرب لم تبقِ سوى على الخوف والجوع.
في مثل هذا السياق، تصبح ضغوط الحياة اليومية –من فقدان الوظائف، وانقطاع المرتبات، وتراكم الديون، إلى انعدام الأمن الغذائي– شرارات كافية لإشعال دوامة الانهيار النفسي.
وتؤكد منظمة العفو الدولية في تقاريرها أن الانهيار الاقتصادي والقيود على الحريات، إلى جانب الصدمات الناتجة عن النزوح وفقدان الأحباء، ساهمت في خلق حالة من الإحباط العميق لدى شرائح واسعة من المواطنين في اليمن، خاصة الشباب.
توصيات الخبراء والمنظمات الإنسانية
يدعو خبراء ومنظمات حقوقية إلى اعتماد خطة وطنية عاجلة للصحة النفسية تتضمن: إنشاء مراكز مجتمعية لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي في المدن والريف، وإدماج خدمات الرعاية النفسية ضمن برامج الإغاثة الإنسانية التي تنفذها الأمم المتحدة، وإطلاق حملات توعية لخفض الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالاضطرابات النفسية والانتحار، وكذلك توفير خطوط ساخنة سرية ومجانية للمساعدة النفسية، بالتعاون مع منظمات مثل الصليب الأحمر والهلال الأحمر، إضافة إلى تدريب العاملين الصحيين والمعلمين على اكتشاف علامات الاكتئاب والانتحار المبكر.
حوادث الانتحار في إب وغيرها من المحافظات اليمنية ليست مجرد أرقام في سجلات الشرطة، بل هي صرخة ألم من مجتمع ينهشه الفقر والعزلة والخذلان، وبين كل شاب يختار إنهاء حياته، هناك مئات يقفون على الحافة ذاتها، في انتظار بصيص أمل أو يد تمتد لإنقاذهم.
مواجهة هذه الظاهرة لا تكون بالمواعظ أو الإدانة، بل بإعادة بناء الإنسان اليمني المرهق، عبر الكرامة، والتعليم، والفرص، والدعم النفسي.