العدالة المؤجلة.. خطوة لبنانية قد تعيد فتح ملف الهجمات الإسرائيلية على الصحفيين

العدالة المؤجلة.. خطوة لبنانية قد تعيد فتح ملف الهجمات الإسرائيلية على الصحفيين
آثار العدوان الإسرائيلي في سيارة للصحفيين في لبنان

في تحول يوصف بأنه بارقة أمل في مسار العدالة الدولية، أعلنت الحكومة اللبنانية في التاسع من أكتوبر عام 2025 تكليف وزارة العدل بدراسة الخيارات القانونية المتاحة لمحاسبة إسرائيل على هجماتها ضد الصحفيين خلال الحرب الأخيرة، وجاء القرار بعد مطالبات متكررة من منظمات دولية، أبرزها هيومن رايتس ووتش التي وصفت الخطوة بأنها فرصة جديدة لتحقيق العدالة للضحايا من الصحفيين الذين دفعوا حياتهم ثمناً لنقل الحقيقة.

تأتي هذه المبادرة بعد عامين من الهجوم الإسرائيلي المتعمد المفترض في جنوب لبنان الذي أودى بحياة المصور الصحفي في وكالة رويترز عصام عبد الله، وأصاب ستة آخرين من مؤسسات إعلامية دولية. ورغم توثيق الحادثة باعتبارها انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي الإنساني، لم تتخذ الحكومة اللبنانية أو القضاء المحلي أي إجراءات ملموسة للمساءلة حتى تشكيل الحكومة الجديدة في فبراير 2025.

وتشير نتائج التحقيقات التي أجرتها قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان إلى أن دبابة إسرائيلية أطلقت قذيفتين من عيار 120 ملم على مجموعة من الصحفيين كانوا يتميزون بوضوح بشاراتهم الإعلامية، ولم يُسجل أي تبادل لإطلاق النار عبر الحدود قبل الحادث بأكثر من أربعين دقيقة، ما يعني أن الهجوم تم في غياب أي خطر عسكري مباشر.

وأكدت هيومن رايتس ووتش أن الغارات الإسرائيلية التي قتلت عصام عبد الله وأصابت زملاءه كانت متعمدة وموجهة ضد مدنيين، ما يجعلها جريمة حرب بموجب القانون الدولي، وأضافت المنظمة أن الجيش الإسرائيلي كان يعلم أو كان ينبغي له أن يعلم أن المجموعة المستهدفة تضم إعلاميين غير مسلحين يقومون بتغطية ميدانية في منطقة بعيدة عن الاشتباكات.

حصيلة ثقيلة على الكلمة

لا يقتصر الاستهداف على لبنان فحسب. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة في غزة، وثقت منظمات دولية استشهاد أكثر من مئتين وخمسين صحفياً وإعلامياً بأيدي القوات الإسرائيلية، وفق إحصاءات مراسلون بلا حدود، وفي هجوم منفصل على مركز إعلامي في صنعاء، قتلت القوات الإسرائيلية واحداً وثلاثين صحفياً وإعلامياً، بحسب لجنة حماية الصحفيين. هذه الأرقام تجعل من الحرب الأخيرة إحدى أكثر الفترات دموية ضد الصحافة في التاريخ الحديث.

ورغم أن القانون الدولي الإنساني، وخصوصاً اتفاقيات جنيف، ينص على حماية العاملين في مجال الإعلام أثناء النزاعات المسلحة، فإن الوقائع الميدانية تكشف عن تراجع خطير في احترام هذه الحماية، ويؤكد باحثون أن الصحفيين باتوا في كثير من الأحيان أهدافاً مباشرة، في انتهاك لمبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين الذي يشكل حجر الزاوية في القانون الإنساني.

تزامن تصاعد الانتهاكات ضد الصحفيين مع دمار واسع خلفته العمليات العسكرية الإسرائيلية في جنوب لبنان منذ أواخر عام 2024، وبحسب تقديرات البنك الدولي، بلغت الخسائر الاقتصادية نحو 14 مليار دولار، منها أكثر من ستة مليارات دولار أضرار مادية للمباني، كما لا يزال أكثر من ثمانين ألف شخص من النازحين داخل لبنان حتى منتصف عام 2025، في حين تحولت قرى حدودية كاملة إلى أطلال.

هذه الأوضاع المأساوية لم تمنع استمرار الانتهاكات حتى بعد دخول وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله حيز التنفيذ في نوفمبر 2024، فوفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، قُتل أكثر من مئة مدني في لبنان خلال الأشهر العشرة التي تلت وقف النار، ما يعكس هشاشة الهدنة واستمرار غياب المساءلة القانونية.

القانون الدولي ومأزق المساءلة

رغم وضوح الأدلة، فلا تزال محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين تواجه عقبات قانونية معقدة. فلبنان لم يدمج بعد الجرائم الدولية مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في نظامه القضائي المحلي بشكل كامل، وفي مارس 2024، كانت الحكومة اللبنانية السابقة قد أعلنت منح المحكمة الجنائية الدولية اختصاص النظر في الجرائم المرتكبة على أراضيها منذ أكتوبر 2023، لكنها تراجعت بعد أسابيع، ما حرم الضحايا من مسار قضائي دولي فاعل.

ويرى خبراء القانون الدولي أن أمام لبنان خيارين أساسيين: إما فتح تحقيقات محلية تعتمد الولاية القضائية الوطنية، أو الانضمام رسمياً إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مع تقديم إعلان لاحق بقبول اختصاص المحكمة بأثر رجعي، وتقول هيومن رايتس ووتش إن أياً من الخيارين يمكن أن يشكل خطوة حقيقية نحو كسر حلقة الإفلات من العقاب التي شجعت على استمرار الجرائم.

ودعا المقرر الأممي الخاص المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء موريس تيدبول بينز، خلال زيارته لبيروت في أكتوبر إلى الإبلاغ عن أي سلوك قد يرقى إلى جرائم دولية وملاحقة مرتكبيه، مشدداً على أن التزامات لبنان بموجب القانون الدولي الإنساني تفرض عليه مقاضاة المتورطين في الانتهاكات الخطيرة.

من جهتها، اعتبرت مراسلون بلا حدود أن ما جرى يمثل استهدافاً متعمداً لحرية الصحافة، مؤكدة أن الصحفيين العاملين في مناطق النزاع يجب أن يتمتعوا بالحماية ذاتها التي يضمنها القانون للمدنيين، وطالبت لجنة حماية الصحفيين بإجراء تحقيقات مستقلة ومحايدة تحت إشراف دولي لضمان الشفافية ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإعلاميين.

ذاكرة مؤلمة ومعركة مفتوحة

منذ مقتل الصحفي عصام عبد الله في أكتوبر 2023، أصبحت قضيته رمزاً لمعاناة الصحفيين في مناطق النزاعات، ويصف زملاؤه الحادث بأنه تذكير قاسٍ بأن الكاميرا باتت تُعامل معاملة السلاح، وأن الصورة أصبحت تهديداً يعاقب عليه بالنار.

تاريخياً، كان الصحفيون في لبنان هدفاً متكرراً في فترات الاضطراب، فخلال الحرب الإسرائيلية عام 2006، سجلت منظمات حقوقية عشرات الانتهاكات ضد الإعلاميين، من قصف مقار القنوات المحلية إلى استهداف فرق ميدانية تحمل شارات صحفية واضحة، إلا أن غياب آليات فعالة للعدالة الدولية سمح بتكرار المأساة بعد نحو عقدين.

نحو مسار للمحاسبة

يرى مراقبون أن تكليف وزارة العدل اللبنانية بدراسة الخطوات القانونية يشكل اختباراً جدياً لإرادة الدولة في إنهاء حقبة الإفلات من العقاب، فنجاح المسار القضائي يتطلب تنسيقاً مع الهيئات الدولية، وتوثيقاً شاملاً للأدلة، وضمان حماية الشهود وأسر الضحايا، كما قد يشكل انضمام لبنان إلى المحكمة الجنائية الدولية نقلة نوعية تتيح ملاحقة مرتكبي الانتهاكات بغض النظر عن جنسياتهم.

ويؤكد باحث هيومن رايتس ووتش رمزي قيس أن ما حدث لعصام عبد الله يجب أن يكون لحظة وعي لا تمر دون مساءلة؛ لأن ترك الجرائم دون عقاب يشجع على تكرارها، ويضيف أن الحكومة اللبنانية تمتلك الآن فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار للضحايا عبر فتح تحقيقات شفافة والانضمام إلى المنظومة الدولية للعدالة.

يبقى السؤال الأساسي هو ما إذا كانت الخطوة اللبنانية ستتطور إلى إجراء قانوني حقيقي أم ستبقى حبراً على ورق كما حدث في تجارب سابقة، لكن المؤكد أن معركة الصحفيين من أجل العدالة تجاوزت حدود لبنان لتصبح قضية إنسانية عالمية، تعكس جوهر الصراع بين الحق في المعرفة ومنطق القوة، وفي عالم يشهد تراجع حماية الإعلاميين، يبدو أن كل جهد قانوني لمحاسبة الجناة هو دفاع عن الحقيقة ذاتها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية