حين تتحول الملاعب إلى معسكرات.. نداءات العائلات تعلو فوق صوت السلاح بمناطق الإدارة الذاتية
تطالب بوقف استقطاب الأطفال واليافعين
في شمال شرق سوريا، حيث تتقاطع الجغرافيا المعقدة مع سنوات من الحرب والانقسام، ترتفع أصوات عائلات كثيرة في مدن وبلدات الإدارة الذاتية تطالب بوقف استقطاب الأطفال واليافعين إلى ما يعرف بمنظمة الشبيبة الثورية، تلك المنظمة التي تُقدَّم على أنها معنية بالتنمية الثقافية والتدريب الرياضي والتوعية الفكرية، لكنها وفق شهادات الأهالي وتقارير منظمات حقوقية محلية ودولية، أصبحت بوابة خلفية تُزَج عبرها الطفولة في أتون الصراع المسلح.
بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان في مشهد يبدو مكررًا من مآسي الحروب السورية، يجد الأطفال أنفسهم مجندين في أنشطة قتالية لا يدركون أبعادها، محرومين من مقاعد الدراسة ومن أحضان أسرهم التي باتت تبحث عن أبنائها بين المراكز والمعسكرات.
أرض خصبة لاستغلال الأطفال
العائلات التي أطلقت نداءاتها العلنية خلال الأسابيع الأخيرة، ترى في هذه الممارسات تهديدًا مباشرًا للمستقبل، إذ لا يُمكن فصل تجنيد القُصّر عن سلسلة الانتهاكات التي تعيشها المنطقة منذ سنوات، فبعد أكثر من عقد من الحرب، أصبحت الفجوة بين الأجيال أعمق، وتحوّل الفقر وانهيار البنية التعليمية إلى أرض خصبة لاستغلال الأطفال تحت عناوين التدريب والتنمية الذاتية، ويؤكد المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يتابع الملف منذ سنوات، أن هذه الممارسات تتنافى مع كل المواثيق الدولية التي تحمي حقوق الطفل، محذرًا من أن استمرارها يقوّض الثقة المجتمعية ويعمّق الانقسامات بين السكان وقوات الإدارة الذاتية.
وتشير تقارير ميدانية إلى أن بعض المراكز الثقافية والرياضية التي تُدار باسم الشبيبة الثورية، تستقبل الأطفال بداية ضمن برامج ترفيهية أو تعليمية، ثم يجري فرزهم لاحقًا إلى مجموعات تدريبية تتضمن تدريبات شبه عسكرية، ومع مرور الوقت، يتم إرسال بعضهم إلى معسكرات في مناطق نائية، دون علم أسرهم أو بموجب موافقات شكلية لا تعبّر عن إرادتهم الحقيقية، وبحسب شهادات وثقتها منظمات محلية، فإن عائلات عدة في الحسكة وعين العرب والرقة لم تتمكن من معرفة مصير أطفالها منذ شهور، بعد أن تم استدعاؤهم إلى نشاطات نظمتها جهات تابعة للشبيبة الثورية ثم انقطع التواصل معهم تمامًا.
ويعزو ناشطون حقوقيون استمرار هذه الظاهرة إلى مزيج معقد من الأسباب، أبرزها الظروف الاقتصادية الهشة التي تدفع كثيرًا من الأسر إلى قبول أي نشاط يوفر الدعم المادي أو الغذائي للأطفال، فضلًا على الفراغ التعليمي والنفسي الذي خلّفته الحرب، إذ يجد الأطفال في تلك المراكز متنفسًا من واقع الفقر والعنف، قبل أن يتحول الأمر تدريجيًا إلى استغلال منظم، كما يشير محللون إلى أن غياب الرقابة المستقلة وضعف المؤسسات المدنية سمح لبعض الجماعات بالعمل بحرية أكبر داخل الهياكل التنظيمية للإدارة الذاتية، ما جعل وقف التجنيد مهمة صعبة رغم التنديدات المتكررة.
انتهاك حقوق الطفل
من الناحية القانونية، يمثل تجنيد الأطفال أو استقطابهم لأغراض قتالية انتهاكًا صريحًا لاتفاقية حقوق الطفل التي وقعتها سوريا عام 1993، وللبروتوكول الاختياري المتعلق بمشاركة الأطفال في النزاعات المسلحة الصادر عام 2000، كما يعد القانون الدولي الإنساني هذا الفعل جريمة حرب وفق نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية. وفي عام 2019، وقّعت قوات سوريا الديمقراطية، الذراع العسكرية للإدارة الذاتية، اتفاقًا رسميًا مع الأمم المتحدة بحضور الجنرال مظلوم عبدي والممثلة الخاصة للأمين العام المعنية بالأطفال في النزاعات المسلحة فيرجينيا غامبا، يقضي بإنهاء جميع أشكال تجنيد القُصّر دون الثامنة عشرة، إلا أن تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية تشير إلى استمرار تسجيل حالات جديدة رغم هذا الالتزام، ما يعكس فجوة واسعة بين النصوص والتطبيق.
ووفقًا لتقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تم توثيق أكثر من أربعمئة حالة تجنيد لأطفال في مناطق خاضعة للإدارة الذاتية خلال العامين الماضيين، بعضهم لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.
وتؤكد منظمة هيومن رايتس ووتش أن الأنشطة الثقافية والرياضية تُستخدم أحيانًا غطاءً لتجنيد الأطفال، حيث يُنقل بعضهم بعد فترة قصيرة إلى مواقع عسكرية بحجة التدريب على الحماية الذاتية، وتضيف المنظمة أن هذه الممارسات، وإن لم تكن بتعليمات رسمية من قيادة قوات سوريا الديمقراطية، إلا أنها تجري في إطار بيئة تسمح بها أو تتغاضى عنها، وتحمّل المنظمة القيادة العسكرية والسياسية مسؤولية مباشرة عن فرض الانضباط وتنفيذ التعهدات الموقعة مع الأمم المتحدة.
نفي والتزام بالقانون
من جانبها، تدافع قيادة قوات سوريا الديمقراطية عن موقفها مؤكدة التزامها الكامل بالقانون الدولي، وتنفي وجود أي أوامر صادرة بتجنيد الأطفال أو زجّهم في الأعمال العسكرية في سوريا، وتقول إن حالات محدودة قد تحدث نتيجة تصرفات فردية من بعض عناصر أو مجموعات محلية، وإنها على استعداد للتعاون مع الجهات الحقوقية للتحقيق فيها وإعادة الأطفال إلى ذويهم، ومع ذلك، يرى المرصد السوري لحقوق الإنسان أن هذه الردود، رغم أهميتها، لا ترقى إلى مستوى معالجة الظاهرة جذريًا، طالما أن الشبيبة الثورية تواصل أنشطتها بحرية في مناطق متعددة، دون رقابة كافية أو مساءلة حقيقية.
خسارة مزدوجة
تتجاوز الأزمة الحالية في سوريا بعدها القانوني لتدخل عمق المأساة الإنسانية، إذ يشكل التجنيد خسارة مزدوجة للطفل وللمجتمع معًا، فالطفل الذي يُجبر على ترك المدرسة والانخراط في أدوار قتالية يفقد جزءًا من هويته ومن قدرته على التكيف مع الحياة المدنية لاحقًا، كما يتعرض لصدمات نفسية عميقة نتيجة التدريب العسكري والعزلة عن الأسرة، وقد أظهرت دراسات متخصصة أن الأطفال المجندين في النزاعات غالبًا ما يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، ونوبات اكتئاب حاد، وشعور دائم بالذنب والخوف. وتتحول آثار هذه التجارب إلى عوائق مستقبلية تحول دون إعادة دمجهم في المجتمع أو استكمال تعليمهم، ما يؤدي إلى دورة جديدة من العنف والفقر.
أما الأسر التي تُحرم من أبنائها، فتعيش مأساة لا تقل قسوة، وكثير من الآباء والأمهات في الحسكة والقامشلي والرقة يروون قصصًا عن محاولاتهم المستمرة للوصول إلى أبنائهم في المراكز التابعة للشبيبة الثورية، لكنهم يُواجهون بالرفض أو بعدم المعرفة. البعض يضطر للانتقال بين المدن بحثًا عن معلومة أو اتصال، في حين يعيش آخرون صمتًا قاسيًا يخيم على بيوتهم منذ رحيل أطفالهم، وهذا الألم العائلي لا ينفصل عن الأزمة المجتمعية الأوسع التي تهدد السلم الأهلي في مناطق الإدارة الذاتية، حيث تتصاعد مشاعر الغضب والاحتقان بين الأهالي الذين يرون في هذه الممارسات تعديًا على سلطة الأسرة وخرقًا لحقها الطبيعي في حماية أبنائها.
الإجراءات العملية محدودة
ورغم التنديدات المتكررة من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، لا تزال الإجراءات العملية محدودة، الأمم المتحدة دعت أكثر من مرة إلى تطبيق اتفاق عام 2019 بين قسد والمجتمع الدولي، وشددت على ضرورة إنشاء آليات رقابية مستقلة قادرة على التحقيق في الحالات وضمان عودة جميع الأطفال المجندين إلى أسرهم، كما طالبت بفتح مراكز لإعادة التأهيل النفسي والتربوي، وتمكين الأطفال من الالتحاق مجددًا بالمدارس، ويرى خبراء أن بناء الثقة بين الإدارة الذاتية والمجتمع المحلي يمثل مفتاح الحل، إذ لا يمكن إيقاف الظاهرة دون تعاون مباشر مع الأهالي وإشراك منظمات المجتمع المدني في الرقابة والتوعية.
تاريخيًا، لم تكن ظاهرة تجنيد الأطفال جديدة على الساحة السورية، لكنها تفاقمت خلال الحرب بعد عام 2013 حين بدأ عدد من الجماعات المسلحة استقطاب الأطفال بسبب نقص المقاتلين وتزايد الانقسامات، ومع انحسار رقعة المواجهات المباشرة في بعض المناطق، كان يُفترض أن تتراجع الظاهرة، غير أن استمرارها في مناطق محددة من شمال شرق البلاد يشير إلى خلل بنيوي في آليات الحماية وغياب البدائل التربوية والاقتصادية للأطفال، ومع اتساع رقعة الفقر وتراجع الدعم الدولي للمنظمات العاملة في مجال حماية الطفولة، تبدو هذه الفئة الأكثر هشاشة مهددة بفقدان آخر ما تبقى من أمنها النفسي والاجتماعي.
في المحصلة، لا يتعلق الأمر فقط بانتهاك قانوني لحقوق الطفل، بل بأزمة إنسانية وأخلاقية تهدد مستقبل جيل كامل، فالمجتمع الذي يُجبر أبناءه على حمل السلاح بدل حمل الكتب، يفقد تدريجيًا قدرته على التعافي وعلى بناء السلام، ومن هنا تتجدد الدعوات إلى الإدارة الذاتية وقواتها الأمنية والعسكرية كي تتعامل مع الظاهرة باعتبارها خطرًا وجوديًا، لا مجرد انتقاد حقوقي عابر، فحماية الأطفال ليست ترفًا سياسيًا أو مطلبًا إعلاميًا، بل هي حجر الأساس في أي مشروع مدني يسعى للاستقرار والعدالة في سوريا المستقبل.