من قمع النساء إلى مصادرة العقول.. "طالبان" تواصل حربها على التعليم والثقافة

من قمع النساء إلى مصادرة العقول.. "طالبان" تواصل حربها على التعليم والثقافة
عناصر حركة طالبان الأفغانية بأحد شوارع أفغانستان

في خطوة جديدة أثارت قلقاً واسعاً داخل أفغانستان وخارجها، أعلنت وزارة التعليم العالي التابعة لحركة طالبان حظر 679 كتاباً جامعياً في مختلف التخصصات، بزعم مخالفتها للشريعة الإسلامية.

ويشمل القرار، الذي صدر عبر وثيقة رسمية وعمم على الجامعات الحكومية والخاصة، كتباً في مجالات الاقتصاد والاجتماع والحقوق والفنون والعلوم السياسية والإعلام، ويعدّ من أكبر حملات الرقابة الفكرية في تاريخ البلاد الحديث.

وقالت الوزارة، وفق ما أوردته شبكة "أفغانستان إنترناشيونال"، إن اللجنة التي راجعت الكتب تضم علماء دين وأساتذة من تخصصات الشريعة والثقافة الإسلامية، معتبرة أن بعض المضامين تتعارض مع "الثقافة الإسلامية الوطنية"، غير أن القرار، بحسب مراقبين.

ويعكس اتجاهاً متواصلاً من قبل سلطات طالبان نحو إعادة تشكيل المنظومة التعليمية والثقافية بما يخدم رؤيتها العقائدية الضيقة، على حساب قيم التعددية والانفتاح التي ناضل من أجلها المجتمع الأكاديمي الأفغاني طوال عقدين من الزمن.

حظر يشمل مجالات أساسية

رغم أن حركة طالبان لم تكشف رسمياً عن عناوين الكتب المحظورة، تسربت قوائم جزئية تضم مؤلفات أكاديمية معروفة مثل "مبادئ الحقوق"، و"أساسيات الاقتصاد المؤسسي"، و"التنمية المستدامة الدولية"، و"علم اجتماع المنظمات"، و"الأفكار السياسية في القرن العشرين".

وتشمل القائمة أيضاً كتباً تُدرّس في أغلب الجامعات الإقليمية والعالمية، ما يعكس حجم القطيعة التي تسعى الحركة لفرضها على البيئة الأكاديمية الأفغانية.

وفي تعميمها الرسمي، طلبت وزارة التعليم العالي من الجامعات استبدال الكتب المحظورة بمواد "متوافقة مع المبادئ الشرعية"، دون أن تقدم بديلاً واضحاً أو جدولاً زمنياً لإعادة التأليف أو الترجمة، وترك هذا القرار آلاف الطلبة وأساتذة الجامعات في حالة من الارتباك، خصوصاً في كليات القانون والإعلام والعلوم الاجتماعية، التي تعتمد على مناهج بحثية حديثة تلامس القضايا المعاصرة للمجتمع الأفغاني.

تعليم مقيد ومجتمع صامت

القرار يأتي امتداداً لسلسلة من الإجراءات التي فرضتها حركة طالبان منذ عودتها إلى السلطة في أغسطس 2021، حيث أغلقت أبواب المدارس الثانوية والجامعات أمام النساء، وفرضت قيوداً صارمة على الاختلاط والتعليم المختلط، كما حظرت على النساء العمل في معظم القطاعات التعليمية والثقافية.

وفي تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" في يوليو 2024، تم التحذير من أن أفغانستان "تواجه خطر محو جيل كامل من المتعلمين"، إذ حُرم أكثر من 2.5 مليون فتاة من التعليم الثانوي والعالي، وأشارت المنظمة إلى أن نسبة الأمية بين النساء والفتيات مرشحة لتتجاوز 60% بحلول عام 2026 إذا استمرت القيود الحالية.

وحذرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان من أن هذه السياسات تشكل "تمييزاً ممنهجاً ضد النساء والفتيات، وقد ترقى إلى جريمة اضطهاد بموجب القانون الدولي".

انتهاك لحقوق الإنسان

من الناحية القانونية، يمثل حظر الكتب والرقابة الفكرية الواسعة انتهاكاً لالتزامات أفغانستان الدولية، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي يضمن الحق في التعليم والبحث العلمي والحرية الأكاديمية، كما يخالف المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أن التعليم يجب أن يهدف إلى تنمية شخصية الإنسان وتعزيز التفاهم والتسامح بين الشعوب.

المنظمات الحقوقية الدولية، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، أدانت الخطوة بشدة، ووصفتها بأنها "هجوم منظم على حرية الفكر والمعرفة"، وقالت هيومن رايتس ووتش إن "طالبان لم تكتفِ بإسكات أصوات النساء، بل بدأت الآن في إسكات الكتب، وهو ما يعكس سعيها لفرض سيطرة فكرية مطلقة على الأجيال القادمة.

ويؤكد أكاديميون أفغان أن القرار يهدد بنسف ما تبقى من استقلال الجامعات، منوهين بأن حظر هذا العدد الكبير من الكتب سيشلّ العملية التعليمية، خصوصاً في التخصصات التي تعتمد على المراجع الأجنبية، منوهين بأن العديد من الأساتذة تلقوا تحذيرات بعدم استخدام مذكرات دراسية قديمة أو الرجوع إلى مصادر أجنبية عبر الإنترنت، ما يعني أن الرقابة امتدت إلى المحتوى الرقمي أيضاً.

كما أُبلغت الجامعات الخاصة بضرورة الحصول على موافقة مسبقة قبل طباعة أو استيراد أي كتاب أكاديمي جديد، وهو ما فُسّر على أنه خطوة نحو احتكار المعرفة وفرض سردية فكرية واحدة تتماشى مع توجهات الحركة.

تداعيات إنسانية واجتماعية

تُعد الجامعات الأفغانية إحدى آخر مؤسسات المجتمع المدني التي كانت توفر مساحة للنقاش الفكري والبحث العلمي، لكن مع استمرار سياسات حركة طالبان، تتآكل تلك المساحات يوماً بعد يوم. فحظر الكتب لا يعني فقط حرمان الطلبة من المعرفة، بل يؤدي إلى تراجع التفكير النقدي وتعطيل الإبداع، وهما عنصران أساسيان لبناء مجتمع متعلم قادر على مواجهة الأزمات.

منظمة "أنقذوا الأطفال" أشارت في بيان حديث إلى أن "التراجع في جودة التعليم لا يقل خطورة عن إغلاق المدارس"، مؤكدة أن طلاب الجامعات الذين يبقون في نظام تعليمي مقيد الأفق معرضون لخطر التطرف أو الهجرة، ما يهدد مستقبل التنمية البشرية في البلاد.

كما أن حظر الكتب التي تتناول موضوعات كحقوق الإنسان والديمقراطية والعلاقات الدولية سيحرم جيلاً كاملاً من الأفغان من فهم الأسس الفكرية والسياسية للعالم الحديث، ويعزز عزلة ثقافية قد تدوم لعقود.

ردود فعل أممية ودولية

الأمم المتحدة عبّرت عن قلقها العميق إزاء هذه التطورات، وقال المتحدث باسم الأمين العام، فرحان حق، إن "فرض القيود على التعليم ومصادر الثقافة لا يخدم استقرار أفغانستان، بل يقوض فرصها في النهوض الاقتصادي والاجتماعي"، ودعت بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان (يوناما) طالبان إلى "التراجع الفوري عن السياسات التي تعرقل حق الشباب في التعلم والتفكير بحرية".

الاتحاد الأوروبي بدوره اعتبر الخطوة "ضربة قاسية للمجتمع العلمي والأكاديمي"، فيما شددت المفوضية الأوروبية على أن "حرية التعليم هي الأساس لأي عملية سلام مستدامة"، أما الولايات المتحدة، فقد أعربت عن قلقها من "الانغلاق الأيديولوجي المتزايد" ودعت إلى فرض مزيد من القيود على التعاون الدولي الأكاديمي مع سلطات طالبان.

وليست هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها حركة طالبان التعليم والثقافة، ففي أواخر تسعينيات القرن الماضي، حين حكمت الحركة البلاد للمرة الأولى، فرضت حظراً مماثلاً على الكتب الأجنبية والموسيقى والفنون، وأغلقت مدارس البنات، وأحرقت آلاف الكتب التي اعتُبرت "مخالفة للشريعة".

وبعد سقوطها في عام 2001، حاولت الحكومات المتعاقبة بدعم دولي إعادة بناء النظام التعليمي، فشهدت البلاد طفرة في التعليم العالي حيث تضاعف عدد الجامعات من 7 إلى أكثر من 40 جامعة بحلول عام 2019، وارتفع عدد الطلاب إلى نحو 400 ألف، بينهم أكثر من 30% من النساء.

لكن هذا التقدم بدأ يتراجع تدريجياً منذ سيطرة طالبان مجدداً على الحكم، مع فرض رقابة متزايدة على المناهج وعودة الخطاب الديني المتشدد في المؤسسات التعليمية.

المعرفة في مواجهة القمع

يرى خبراء في الشأن الأفغاني أن هذه السياسات لا تستهدف فقط السيطرة على التعليم، بل تهدف إلى إعادة تشكيل هوية المجتمع عبر أدوات فكرية وثقافية، فطالبان، بحسب تقارير بحثية صادرة عن معهد دراسات الحرب والسلام في واشنطن، تسعى إلى "إعادة أسلمة" التعليم الجامعي وفق تفسيرها الخاص للشريعة، وهو ما يخلق فجوة بين أفغانستان وبقية العالم الإسلامي الذي قطع خطوات واسعة نحو التعليم الحديث والانفتاح الثقافي.

ورغم القمع، لا تزال محاولات المقاومة الثقافية مستمرة. فبعض الأساتذة والطلاب يحاولون الحفاظ على نسخ رقمية من الكتب المحظورة أو تدريسها بشكل سري عبر الإنترنت، كما ظهرت مبادرات من منظمات تعليمية خارجية لتوفير منصات تعليمية إلكترونية بديلة، تتيح للطلاب الوصول إلى مناهج علمية دون رقابة.

بين الحظر والمصادرة، يجد الشباب الأفغاني نفسه في مواجهة جدار من الجهل المفروض بالقوة، حيث تُحرم العقول من أدواتها وتُمنع الأسئلة قبل أن تُطرح، فالمعرفة، التي كانت يوماً طريقاً نحو التحرر، باتت اليوم تُعامل كتهديد، ومع كل كتاب يُمنع، يتقلص أفق الحرية في بلد عطش منذ عقود إلى السلام والكرامة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية