من مراعٍ إلى رماد.. جريمة بيئية في قلب الأمازون تختبر التزام العالم بالمناخ
من مراعٍ إلى رماد.. جريمة بيئية في قلب الأمازون تختبر التزام العالم بالمناخ
في أحدث تحذير بيئي وحقوقي يعكس مأساة متصاعدة في قلب الأمازون، قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إن مزارع الماشية غير القانونية في ولاية بارا البرازيلية تواصل تدمير الغابات المطيرة وسبل العيش، في انتهاك جسيم لحقوق الإنسان والبيئة، وذلك قبل شهور من استضافة المنطقة لقمة المناخ العالمية COP30.
ووفق التقرير الصادر في ساو باولو، فإن مربّي الماشية استولوا على أراضٍ مملوكة لصغار المزارعين وللسكان الأصليين في منطقتي "تيرا نوسا" و"كاتشويرا سيكا"، وحولوها إلى مراعٍ واسعة لتربية الأبقار المخصصة للتصدير، وقد أظهرت التحقيقات أن هذه المزارع غير القانونية زوّدت بشكل مباشر أو غير مباشر شركة اللحوم العملاقة JBS، أكبر منتج للحوم في العالم، والتي صدّرت منتجاتها لاحقاً إلى أسواق الاتحاد الأوروبي.
شركة في قلب الاتهامات
يشير التقرير المكون من 86 صفحة إلى أن شركة JBS لم تنفذ بعد نظاماً لتتبع مورديها غير المباشرين، رغم تعهدها منذ عام 2011 بإنشاء آلية شفافة لمراقبة سلسلة التوريد، وحول هذا الإخفاق، تقول هيومن رايتس ووتش، تبقى الشركة غير قادرة على ضمان أن منتجاتها خالية من الانتهاكات البيئية أو الحقوقية.
وأكدت الباحثة البيئية في المنظمة، لوسيانا تيليز تشافيز، أن "غياب التتبع يجعل JBS غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها في القضاء على إزالة الغابات من عملياتها بحلول نهاية عام 2025"، مضيفة أن الشركة تستفيد من ثغرات تشريعية تسمح بتداول الماشية من مزارع مخالفة دون رقابة فعالة.
ووفق تحليل لتصاريح نقل الماشية الصادرة عن سلطات ولاية بارا، تم تحديد خمس حالات موثقة نُقلت فيها ماشية من مزارع غير قانونية داخل المناطق المحمية إلى أخرى خارجة عنها، قبل أن تُباع إلى مسالخ تابعة لشركة JBS، وبموجب القانون البرازيلي، يعد هذا النمط من "غسل الماشية" مخالفة بيئية وجنائية خطيرة.
غابات قُطعت جذورها
تعود جذور الأزمة إلى عام 2006، حين أنشأت وكالة الإصلاح الزراعي البرازيلية مستوطنة "تيرا نوسا" لصغار المزارعين على مساحة 150 ألف هكتار، خصصت منها 80 في المئة للحفاظ على الغابات المطرية، لكن بعد أعوام قليلة، بدأ مربّو الماشية في الاستيلاء على الأراضي بشكل غير قانوني، وتحويل مساحات شاسعة إلى مراعٍ، مستخدمين العنف والتهديد لإسكات السكان المحليين، وبحلول عام 2023، كان نحو 45 في المئة من أراضي المستوطنة قد تحوّل إلى مراعٍ.
وبحسب المسح الذي أجرته وكالة الإصلاح الزراعي عام 2016، تبيّن أن أكثر من 78 في المئة من أراضي "تيرا نوسا" مشغولة بشكل غير قانوني، إلا أن السلطات لم تتخذ أي خطوات حقيقية لإخلائها، بل تدرس الآن إعادة تقسيمها، وهو ما قد يكرّس الأمر الواقع ويشجع على الإفلات من العقاب.
في منطقة "كاتشويرا سيكا"، يعيش شعب أرارا الأصلي الذي يعتمد على الغابات في صيده وزراعته وثقافته، لكن الزحف المتسارع للمزارع غير القانونية قلّص من مساحة الغابات وأدى إلى تراجع مصادر الغذاء الطبيعية، وأجبر كثيراً من العائلات على النزوح، وسجلت المنطقة العام الماضي أعلى معدل لإزالة الغابات في أراضي السكان الأصليين في الأمازون بأكملها.
تواطؤ وضعف القانون
لا تقتصر الإشكالية على الفاعلين المحليين فحسب، بل تمتد إلى ضعف الأطر القانونية التي تنظم حركة الماشية في البرازيل. فحتى اليوم لا توجد منظومة اتحادية تُلزم بتتبع كل رأس ماشية أثناء تنقلها بين المزارع، وقد أعلنت حكومة ولاية بارا نيتها في إنشاء نظام تتبع فردي بحلول عام 2026، في حين وعدت الحكومة الفيدرالية بتطبيق نظام وطني مماثل بحلول عام 2032.
غير أن هذا الجدول الزمني البطيء، بحسب هيومن رايتس ووتش، يتيح استمرار الممارسات غير القانونية لسنوات مقبلة، خاصة مع الطبيعة العابرة للحدود لتجارة الماشية داخل البلاد.
من جانبها، تقول شركة JBS إنها تراقب مورديها المباشرين وتتحقق من امتثالهم للمعايير البيئية، لكنها أقرت بأنها لن تطلب معلومات حول الموردين غير المباشرين إلا اعتباراً من يناير 2026، وهو موعد تعتبره المنظمات الحقوقية متأخراً جداً، نظراً لتسارع وتيرة التدمير الحالية.
بين التشريعات والضغوط
يأتي التقرير في وقت حساس قبيل دخول تشريعات الاتحاد الأوروبي الجديدة حيز التنفيذ في يناير 2026، والتي تحظر استيراد أي منتجات مصدرها أراضٍ أُزيلت غاباتها بعد عام 2020، أو تخالف القوانين المحلية لبلد المنشأ، غير أن بعض المشرعين الأوروبيين يناقشون تأجيل التطبيق لمدة عام إضافي، وهو ما وصفته هيومن رايتس ووتش بأنه "تراجع خطير سيتيح استمرار تدفق السلع الملوثة بالانتهاكات إلى الأسواق الأوروبية".
وتظهر بيانات المنظمة أن دولاً عدة في الاتحاد الأوروبي، منها بلجيكا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا والسويد، استوردت لحوماً ومنتجات جلدية من منشآت JBS الواقعة في المناطق المتضررة، ما يضع مسؤولية أخلاقية وقانونية على عاتق تلك الحكومات لضمان عدم تواطئها في الانتهاكات البيئية.
وفي سياق متصل، قالت المفوضية الأوروبية إنها تراجع التقارير الواردة من البرازيل، مؤكدة التزامها بتطبيق اللوائح الجديدة بحزم، في حين شددت منظمات بيئية مثل "غرينبيس" و"أمازون ووتش" على أن أي تأجيل للقانون الأوروبي سيقوض مصداقية الاتحاد في قضايا المناخ وحماية الغابات.
أزمة بيئية وإنسانية
تدمير الغابات المطيرة لا يعني فقط فقدان الأشجار، بل انهيار أحد أعمدة التوازن البيئي العالمي، فغابات الأمازون التي توصف بأنها "رئة الكوكب"، تمتص نحو 5 في المئة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية سنوياً، ومع استمرار إزالة الغابات بمعدل يقارب 1.5 مليون هكتار سنوياً، تتزايد المخاوف من تحول الأمازون إلى مصدر لانبعاث الكربون بدلاً من امتصاصه.
تُقدّر منظمة الأغذية والزراعة أن أكثر من 17 في المئة من غابات الأمازون الأصلية قد دُمّرت خلال العقود الأربعة الماضية، في حين حذر علماء من أن تجاوز نسبة 20 إلى 25 في المئة قد يؤدي إلى انهيار النظام البيئي بالكامل، ما يعني جفاف الأنهار الاستوائية وتحول مساحات شاسعة إلى أراضٍ قاحلة.
هذا الدمار البيئي ينعكس بشكل مباشر على حياة ملايين السكان المحليين، خاصة المجتمعات الأصلية التي فقدت مواردها الغذائية ومصادر مياهها، كما ازدادت الاعتداءات ضد المدافعين عن البيئة، حيث سجلت البرازيل أكثر من 34 حالة قتل لناشطين بيئيين عام 2024 وفق تقرير منظمة "غلوبال ويتنس"، وهو من أعلى المعدلات في العالم.
المسؤولية والردود الحقوقية
طالبت هيومن رايتس ووتش الحكومة البرازيلية بإزالة المزارع غير القانونية فوراً ومحاسبة المتورطين في احتلال الأراضي واستغلالها، إضافة إلى تسريع تطبيق أنظمة تتبع الماشية لضمان الشفافية في سلاسل التوريد، كما دعت شركة JBS إلى اتخاذ إجراءات تصحيحية وتعويض المجتمعات المتضررة، ومنها دعم برامج استعادة الغابات وتحسين ظروف المزارعين الشرعيين.
ورددّت منظمات أخرى، مثل العفو الدولية ومنظمة الشفافية الدولية، هذه الدعوات مؤكدة أن تدمير الغابات يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفساد وضعف الحوكمة، في حين أشارت الأمم المتحدة إلى أن حماية الغابات المطيرة تمثل "ضرورة قانونية وأخلاقية" بموجب اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 واتفاقية التنوع البيولوجي.
وفي هذا السياق، قال المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الشعوب الأصلية إن ما يحدث في الأمازون يشكل "تهديداً وجودياً" لتلك المجتمعات، داعياً البرازيل إلى تنفيذ التزاماتها الدولية في حماية أراضي الشعوب الأصلية ووقف العنف ضد المدافعين البيئيين.
إرث الأمازون المهدد
منذ سبعينيات القرن الماضي، تسارعت إزالة الغابات في الأمازون نتيجة توسع الزراعة وتربية الماشية التي تشكل الآن نحو 80 في المئة من أسباب إزالة الغطاء الحرجي في البرازيل.
ورغم إطلاق الحكومات المتعاقبة برامج للحد من التدمير، مثل خطة العمل الوطنية في 2004 التي خفضت معدلات إزالة الغابات بنسبة 80 في المئة خلال عقد واحد، فإن الاتجاه عاد للارتفاع منذ عام 2016 بسبب ضعف تطبيق القوانين وتزايد الطلب العالمي على اللحوم.
وبينما أعلنت حكومة الرئيس لولا دا سيلفا التزامها بوقف إزالة الغابات بحلول 2030، يرى خبراء أن نجاح هذا الهدف يعتمد على مواجهة شبكات المصالح الاقتصادية التي تستفيد من التوسع الزراعي غير القانوني، وعلى تعاون دولي يربط التجارة بالمسؤولية البيئية.
تحذير هيومن رايتس ووتش ليس مجرد تقرير حقوقي، بل رسالة إنسانية إلى العالم مفادها أن إنقاذ الأمازون هو إنقاذ للإنسان نفسه، فالغابة التي تختنق اليوم بصمت، هي الرئة التي يتنفس بها الكوكب بأسره.