"لم أتعرف إلى بيتي".. حكايات الغزيين العائدين من النزوح إلى الدمار

"لم أتعرف إلى بيتي".. حكايات الغزيين العائدين من النزوح إلى الدمار
فلسطينية بين الأنقاض في غزة

لم تكن العودة إلى مدينة غزة حلمًا كما تخيلها كثيرون، فبعد أسبوعٍ من سريان وقف إطلاق النار، بدأ عشرات الآلاف من الفلسطينيين رحلة العودة من الجنوب إلى الشمال، يحملون ما تبقّى من متاعهم فوق عرباتٍ متهالكة، وعلى أكتافٍ أنهكها النزوح الطويل.

لكن ما كان ينتظرهم هناك لم يكن الوطن، بل أطلال وبقع رمادية من الغبار والحجارة والذكريات وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.

تحوّل الطريق الساحلي إلى نهرٍ بشري يسير بخطواتٍ ثقيلة، كأن كل خطوة تُعيد سرد حكاية الفقد، وقال أحدهم وهو يعبر الركام: لم نعد إلى بيوتنا.. بل إلى مقابرها.

بين الخيمة والركام

تصف سهير العبسي، وهي أمّ لسبعة أطفال من حي الشيخ رضوان، لحظة عودتها بقولها: "كنت أرجو أن أرى بيتي واقفًا، ولو جدارًا واحدًا فقط، لكنني لم أستطع حتى التعرف إلى المكان. اختلطت أنقاض البيوت ببعضها حتى ضاعت معالم الحيّ. الدمار يفوق الخيال".

ظلت عائلتها صامدة حتى اللحظات الأخيرة من الاجتياح البري، تراقب الدبابات الإسرائيلية من نافذة المنزل، وحين اقتربت أكثر، تركت كل شيء خلفها ولاذت بالفرار نحو الجنوب، واليوم، عادت لتجد أن كلّ شيء صار رمادًا.

تقول وهي تنظر إلى أطفالها:"هنا كانت غرفتنا.. هنا زرعتُ شجرة الليمون.. لم يبقَ سوى الغبار، حتى الحجارة تحطمت".

جلست العائلة فوق أنقاض البيت ونصبت بطانية بين عمودين متداعيين لتستر الشمس، "سنبقى هنا"، تقول سهير بإصرارٍ غريب يشبه التحدي، "هذا المكان هو ذاكرتنا، إن مُتنا فسنموت في بيوتنا".

المدينة التي لا تُعرف

في الشجاعية، وجدت سوزان الشياح نفسها تائهة وسط الركام والأنقاض، لم تستطع في البداية تحديد موقع منزلها من بين الشوارع التي لم تعد موجودة. تقول:

"الصدمة كانت أكبر من الاحتمال، لم أملك القوة لأبحث عن تذكار واحد من بيتنا. لم أجد شيئًا.. لا صورة، لا قطعة أثاث، لا بابًا أتعرف إليه".

أمضت العائلة أيامًا تبحث عن مكان لنصب خيمتها، وفي النهاية، استقرت على بقايا مدرسة مهدّمة.

"لسنا نفكر في الغد،" تقول سوزان، "نريد فقط مكانًا ننام فيه دون خوف، لا نعرف إن كانت الهدنة ستصمد. كل ما نرجوه ألا تعود الحرب".

عطشٌ فوق الركام

الماء، كما الحياة، صار نادرًا في شمال قطاع غزة، ومحطات الضخ والتحلية دُمّرت، والخزانات امتلأت بمياه الصرف الصحي، تقف العائلات في طوابير طويلة أمام صهاريج متنقلة للحصول على بضع لترات.

تقول سهير العبسي: "حتى الماء لم يعد صالحًا للشرب، ومع ذلك نشربه لأننا لا نملك بديلًا".

الأمم المتحدة حذّرت من أزمة مياه حادة تهدد عشرات الآلاف، وقالت إن إصلاح البنية التحتية المدمّرة يعتمد على مرور المعدات عبر المعابر، وهو ما زال متقطعًا.

ركام جباليا

في جباليا، حيث تحوّل المخيم القديم إلى ركامٍ ممتدّ، عاد هاني عبد ربه، المقاول الستيني، ليتفقد بيوت عائلته الأربعة في حي الجورن، ولكن كلها اختفت.

يقول بصوتٍ متقطع: "وقفتُ على ما كنت أظنه عتبة منزلنا، وفقدت الوعي، لم أصدّق أن أربعة بيوت تحولت إلى غبار، حفيدي قُتل في الملجأ، وابني خرج يبحث عن طعام ولم يعد".

اليوم، يخطط لإقامة خيمة صغيرة على أنقاض منزله، لكنه يواجه صعوبة في الحصول على خيام بعد أن نُهبت كثير من الشحنات الموجهة لقطاع غزة.

ومع ذلك، لا يفكر بالمغادرة: “ولدت هنا وسأموت هنا، هذا الركام هو ما تبقى من حياتي، ولن أتركه”.

منذ اندلاع الحرب، نزح أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني من شمال قطاع غزة إلى الجنوب، في واحدة من كبريات موجات النزوح في تاريخ القطاع، ومع دخول الهدنة حيز التنفيذ، بدأت حركة العودة العكسية نحو الشمال، لكن ما وجده العائدون كان أبعد ما يكون عن “البيت”.

تقدّر الأمم المتحدة أن نحو 60% من المباني في مدينة غزة وجباليا والشجاعية قد دُمرت أو تضررت كليًا، في حين توقفت شبكات المياه والكهرباء عن العمل في معظم المناطق.

ورغم الخطر وانعدام الخدمات، يصر كثيرون على العودة إلى مناطقهم المهدّمة، ليس لأن الحياة هناك أسهل، بل لأن الذاكرة لا تُهجّر، ولأن الخيمة فوق الركام أحيانًا أرحم من غربةٍ طويلة في أرضٍ لا تشبه البيت.

بين ركام البيوت وصدى الذكريات، يعيش الغزيون اليوم بين سؤالين مؤلمين.. كيف يبدؤون من جديد؟ وكيف يعيشون في مدينة لم تعد موجودة؟ لكن وسط هذا الخراب، يظل في عيون الأطفال وقلوب الأمهات ما يشبه الرفض.. رفض الاستسلام، فالعودة، حتى إلى الرماد، هي شكلٌ من أشكال الحياة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية